تختلف المقاربة المغربية لحل الأزمة الليبية عن غيرها من المبادرات التي تتقدم بها الأطراف الدولية الأخرى، كونها تأتي من بلد شقيق غير ضالع في تأجيج الصراع الدائر الآن بليبيا؛ بلد قد سبق له أن أبلى البلاء الحسن في جمع كلمة الليبيين، حين أسعفهم باتفاق مرجعي تم عقده فوق أرضه بالصخيرات، شكل لهم لحظة إجماع وخارطة طريق حظيت بمباركة المجتمع الدولي، وكانت واضحة وكافية لرأب الصدع.
المغرب بلد ليست له حدود مباشرة مع ليبيا. وبالتالي ليست أية أطماع ولا مصالح أو حسابات ذاتية مباشرة في الملف، إذ يتحرك بوازع الأخوة، وبدافع من رفضه للتدخل العسكري والأجنبي في شؤون الدول، وكذا غيرته على وحدة واستقرار بلد مغاربي يتقاسم معه وحدة التاريخ والجغرافيا والدين والديموغرافيا.
استقبال عقيلة صالح والشمري بالمغرب بشكل منفصل ولكن متوازٍ بالرباط يدل على أن مختلف الفرقاء الليبيين يحسون في أعماقهم بأن الحل قد يوجد في الرباط، التي لا خلفية مصلحية لها ولا أجندة لها غير أجندة الشعب الليبي نفسه الذي يريد جاهدا الخروج من تبعات ربيع عربي تطور نحو الأسوأ؛ ربيع حمل في ليبيا بصمات حلف "الناتو" الذي أجهز منذئذ على أمن وسلامة واستقرار الليبيين.
ميزة المقاربة المغربية أنها تتوخى حلا ليبيا ـ ليبيا وتبتعد عن كل حل تطبخه أطراف إقليمية يسيل لعابها لليبيا، سواء طبخته على نار ملتهبة من خلال الحروب أو على نار هادئة في الكواليس والدهاليز المغلقة؛ ذلك أن انعدام تضارب المصالح يجعلها الأنجع للمشهد الليبي.
المغرب اعتبر أن لا مبادرة لديه الآن، مؤكدا على مرجعية اتفاق الصخيرات الذي ينبغي تحيينه وتطويره ليلائم المتغيرات، خصوصا أن مياها كثيرة قد جرت تحت الجسر بين 2015 و2020. وهذه نظرة واقعية لافتة تعكس نصح رائد لا يكذب أهله.
حين نبه المغرب الإخوة المتناحرين إلى عدم السقوط في مأزق تعدد المبادرات، فقد أشار لهم بأن هذه الأخيرة سوف تؤثر سلبا في مسار الأزمة؛ لأن كل مبادرة جديدة تؤدي فقط إلى زيادة عدد اللاعبين الدوليين في الملف الساعين كلهم نحو إحكام قبضتهم على مصادر النفط والغاز، مما يؤخر الحل ويعقده بل ويدول الأزمة أكثر .
إن اختلاف الليبيين إلى عواصم العالم ينزع المبادرة منهم، ويوفر فقط غطاء شرعيا للتدخلات الأجنبية، ويطبع مع مرور الوقت مع واقع تقسيم ليبيا وتفكيكها كما هو حاصل الآن إلى شرق وغرب وربما غدا إلى أكثر من ذلك.
الحل ينبغي أن يظل ليبيا خالصا.. وفي الحالة القصوى يمكن أن تأتي المساعدة على هذا الحل من دول المغرب العربي، حتى لا تتكرر الحالة السورية في غرب العالم العربي. يجب أن تستثمر ليبيا أزمتها لتسريع بناء المغرب العربي في إطار خطة وحدوية مغاربية تستوعب أيضا الحل الليبي.
كلما تدخل فاعلون أكثر في الملف الليبي، كلما تحولت ليبيا إلى طبق سائغ في عشاء الدول المتربصة، التي تسعى إلى مصالحها فقط . وأكبر دليل على هذا التهافت الدولي هو أن الاتحاد الأوربي ليس على موقف واحد: كل بلد يجلس حيث توجد براميله: هكذا اصطفت فرنسا وألمانيا مع حفتر، واختارت إيطاليا السراج.
كما أن دول حلف "الناتو" ليست أيضا متفقة على مساندة شرعية واحدة بعينها. هذا ما يجسده على الأقل الصراع الفرنسي التركي. وبينما أصبحت روسيا فرس رهان لتركيا تتبعها أينما حطت الرحال، لا يزال موقف الولايات المتحدة الأمريكية غامضا وملتبسا تتحين الفرصة السانحة للتدخل وإملاء أوامرها بشكل ما.
بدورها، الدول العربية منقسمة بخصوص ليبيا بين المحورين اللذين تشكلا عقب حصار قطر. وحدها الدول المغاربية من لا تريد أن ينفجر هذا اللغم الليبي الذي ستتطاير شظاياه إلى منطقة شرق المتوسط وشمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء وجنوب أوروبا.
الواضح الآن لكل مشفق من الحالة الليبية أنه يجب تفعيل المسار السياسي، خصوصا بعد حالة الثبات المؤقتة الراهنة التي يعرفها الوضع على الميدان، لاستغلال هذه الهدنة في استحثاث الحلول الناجعة والدائمة تمنع وقوع الحرب المدمرة.
ما يجب أن يعيه طرفا الصراع المتواجهين بليبيا هو أنهم بتعنتهم سيحولون بلدهم ليس إلى محرقة تأتي على الأخضر واليابس بل وإلى خطر يتهدد كامل دول المغرب العربي التي ستتأثر بمسار الأحداث هناك؛ مما سينعكس عليها اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وأمنيا، حيث ستشكل الحالة الليبية لا قدر الله البوابة التي سيتسرب منها فيروس التفكيك والبلقنة، الذي تسعى إلى نشره القوى العالمية المتشوفة إلى تحقيق حلمها في رؤية دورة أخرى لسايس بيكو تقود نحو شرق أوسط جديد وعالم عربي مقطع الأوصال مشرذم إلى النخاع.
الليبيون أمام رهان لا يهم وطنهم الصغير فقط، بل هو يهم وطنهم الكبير. وبالتالي ليس أمامهم سوى حلحلة الملف الليبي أو حلحلة الملف الليبي.
ولذلكـ فليبيا تحتاج إلى صدق نوايا أبنائها أولا، حتى لا تصيبهم لعنة النفط والغاز والموقع الجغرافي، لكي ينجزوا نسخة جديدة ومنقحة من اتفاق الصخيرات. نسخة تعيد بعث الوئام الليبي انطلاقا من الإلهام الذي تمثله كمحطة وحدوية مضيئة. اتفاق لا يكون فيه أي ارتهان لأي قرار خارجي. بل يكون كل الارتهان لمستقبل الأجيال المقبلة. إن ليبيا قد حباها الله كل الخيرات، وعلى الليبيين أن يثبتوا العالم أنهم جديرون بها. فهل يعقلون؟.