من قصور البحث الأأنثروبولوجي والسوسيولوجي المغربي، هو ضعفه أمام الإرث الكولونيالي وعدم قدرته على تجاوز النظريات التي تركها ضباط الشؤون الأهلية وبعض الطلبة الباحثين الشباب القادمين من الدول الناطقة بالإنجليزية، الذين اختاروا المغرب وشمال إفريقيا بشكل عام، لإنجاز أبحاث ودراسات بُعيد عهد الاستقلال لفهم بعض البنيات السياسية والثقافية للشعوب الإفريقية التي خرجت للتو من براثن الاستعمار، وكانت أمريكا بالخصوص تريد فهم حركات التحرير بهذه البلدان التي كانت في معظمها حركات متماهية مع التيارات الاشتراكية.
قلنا، إن البحث السوسيولوجي والأنثروبولوجي المغربي لم يتجاوز بعد أنين الصدمة والدهشة أمام المنجز البحثي الأجنبي، وكاد "بول باسكون" أن يحقق قفزة نوعية في هذا المضمار، حين اشتغل على حوز مراكش، ولكن ما أن اقترب من العمق أثناء اشتغاله على "مملكة تازروالت" بمنطقة إيداوسملال ضواحي تزنيت، وبدأ يدمج طلبته في هذا الورش الجديد، كحمودي والطوزي والناجي وآخرون حتى تعرض لحادثة سير غامضة بصحراء موريتانيا، أدت إلى وفاته وتوقف المشروع. كما حاول "محمد جسوس" في أطروحته الأولى لنيل شهادة السلك الثالث دراسة القبيلة في سوس، لكن مع تطور معارفه غير بوصلة أبحاثه إلى وجهة أخرى انسجاما مع قناعاته السياسية. أما "عبد الكبير الخطيبي" فقد تعمق سوسيولوجيا في قضايا الآداب والفكر وصورة الآخر في المتون والنصوص واهتم بالتعدد في الرموز. ثم توقف البحث في المغرب عند الترجمة كما يقول "عبد الله العروي" الذي دعا في محاضرته الأخيرة بجامعة محمد الخامس أثناء افتتاح كرسي جامعي يحمل اسمه، دعا إلى المزج بين الترجمة والتأويل.
صحيح أن البحث الأنثروبولوجي والسوسيولوجي شهد بعضا من التراكم في السنوات الأخيرة، إلا أنه يبقى في حدود مستويات معينة، وطغيان التقليد في المقاربات ومحدودية البنيات البحثية وغياب الاستشكال في جوهر القضايا والمواضيع المقترحة.
ظهرت أوراش بحثية جديدة كموضوع التنمية والهجرة وسوسيولوجيا القرية والمدينة والمؤسسات، كما تم الاستمرار في دراسة القبيلة والزاوية والمخزن؛ لكن المتخصصين في هذه الميادين يعرفون أن التراكم في ميدان البحث العلمي يحتاج إلى تطوير المناهج وطرق التدريس والخروج إلى الميدان برزنامة من الأسئلة جديدة وجدية تتوخى الغوص في بنيات المجتمع المغربي. ولكن ذلك يتوقف على ضرورة فهم شامل للتاريخ وللمجالات المدروسة ولخصوصياتها الثقافية واللغوية، وكذا بنياتها الذهنية. حين اطلعت على بعض الاطروحات التي نوقشت في بعض الجامعات المغربية خلال السنوات القليلة الماضية، (الكثير منها تصفحت فقط عناوينها ولم أطلع على المتون) يظهر أنه يوجد قصور كبير في زاوية معالجة المواضيع، أو في ما يمكن أن نسميه بالمنطلقات.
على سبيل المثال، تُدرس الهجرة من البوادي الفقيرة والنائية إلى المدن الكبرى، التي تبقى خطوط ومسارات تقليدية في الهجرة، مثل الهجرة إلى أوروبا أو إلى أمريكا ثم الهجرة إلى بلدان الخليج البترولية، دون نسيان توجه الباحثين في السنوات الأخيرة إلى دراسة هجرة شباب دول جنوب الصحراء الكبرى واستقرارهم بالمغرب الذي كان في السابق منطقة عبور.
لكن لم تظهر بعدُ دراسات جدية لنوع لامتدادات الهجرة، أو ما يمكن تسميته بالهجرة المعاكسة أو عودة المهاجرين إلى مناطقهم الأصلية، كما نشاهده في أيام العيد مثلا. يعني دراسة العودة. وتتخذ أشكالا كثيرة، منها عودة المهاجر الأمازيغي من المدن الكبرى إلى دواره الأصل، إما في مناسبات العيد أو الزواج أو العودة الأخيرة، عودة الخلود، حيث بعض المهاجرين يتركون وصايا الدفن في مسقط الرأس.
إن عودة الأمازيغ بشكل جماعي من المدن التي هاجروا إليها، واشتغلوا فيها طيلة عمرهم وراكموا فيها ثروة ورأسمال، ومنهم من هاجر فقيرا وأصبح بعد سنوات غنيا وذا جاه ونفوذ، هي عودة يجب أن تدرس دراسات علمية دقيقة سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا ونفسيا واقتصاديا، ثم يجب أن تستثمر هذه العودة بشكل جيد، في التنمية والثقافة والسياسة.
إن ما عاشه المغرب ليلة يوم الأحد الماضي، بعد قرار الحكومة في شخص وزارة الصحة ووزارة الداخلية، منع التنقل من وإلى بعض المدن الصناعية الكبرى التي تعرف ارتفاع عدد المصابين بفيروس كوفيد 19، يحمل مؤشرات كثيرة ذات دلالات عميقة، يجب على الباحثين في العلوم الإنسانية والاقتصادية رصدها وتتبعها وتفكيكها. لا التعامل معها بشكل عرضي استهلاكي ظرفي، كفقاعات إعلامية موسمية. وهو ما سمته وسائل الإعلام الفورية بليلة "الهروب الكبير".
فعلا إنه هروب كبير، نزوح جماعي بالسيارات والحافلات والشاحنات نحو مناطق الجنوب، وراء الأطلس الكبير، بسوس والجنوب الشرقي، هو فعل جماعي عفوي في وقت وجيز جدا. يتساءل المرء عن الطريقة التي اتخذ بها آلاف من الناس والعائلات بشكل فردي وجماعي، قرار السفر بشكل مفاجئ لحظات قليلة بعد إعلان قرار الحكومة. هل كان هؤلاء الناس مستعدون للسفر بهذه السرعة؟ هل كانوا على اتفاق جماعي بالمغادرة نحو قبائلهم ودواويرهم؟
في الحقيقة، إنه هروب من العمارات الإسمنتية التي تحتوي شققا سكنية متشابهة وضيقة جدا عالقة في السماء وهي بمثابة أقفاص مغلقة بأقفال وسياجات حديدية. إلى اعتناق دواوير طينية على السفوح، إنه اللجوء إلى القصبات المبنية بالطين والحجر والقصب بأودية درعة وتافيلالت ووارزازات، وتخوم تاليوين وتلال طاطا وسفوح جزولة. إنه هروب يجسد نموذجا ناصعا لاستمرارية الصراع بين حرية البادية وقيود المدينة التي تستعبد ساكنيها وتفقدهم إنسيتهم، حيث يتحولون إلى أقنان في المعامل والشركات ومختلف الإدارات حيث مقر عملهم. إنه هروب يجسد الرغبة الجامحة للتخلص من رقابة وتسلطية الحاضرة ونزقيتها، كما يمكن أن نفهم منه هروب من القيود الكثيرة التي تفرضها المدينة بفضل مؤسسات الدولة التي تسيطر على كل تفاصيل الحياة، مدن تعاني من شدة الاختناق ونمطية الحياة وسلوكها الذي طغى عليه الإفراط في الاستهلاك وجمع كل التناقضات الصارخة. ولعل ما شاهدناه ليلة يوم الأحد الماضي على الطرقات وعلى منعرجات الأطلس الكبير دليل على أن عودة الامازيغ إلى مناطقهم وإلى قبائلهم فيه نوع من التحدي. تحدي السلطة وقرار الحكومة، إنه يحمل في طياته روح الانتفاض... أليس الطين بداية الانتفاض والنهوض، كما يروي ذلك الأولون؟ كما أن الهروب من الإسمنت في المدن الكبرى يكون دائما خلال فصل الصيف من كل سنة، لأن البادية عكس المدينة تنسجم مع تقلبات المناخ، لا سيما أن بيوت الطين في القصبات وداخل القصور والدواوير تكون باردة في الصيف ودافئة في الشتاء والخريف وهي نظيمة الهندسة المعمارية الامازيغية التي تتناغم مع الطقس والبيئة، عكس الإسمنت الذي يكون شديد البرودة في الشتاء وحار جدا في الصيف. هي بعض حِكم وقيم البادية التي تمتاز بروح الجماعة وقيم تامونت وتيويزي، التي توازيها فردانية المدينة وأنانيتها واستغلالها المفرط للفئات الاجتماعية السفلى، إنها صورة معبرة عن حتمية الصراع ليس بين الدوار والمدينة وإنما أيضا بين القبيلة والمخزن. وهو الصراع الذي ساهم بشكل كبير في خلق التوازن عبر تاريخ المغرب، لكن يبدو من طريقة هروب ساكنة الجنوب الشرقي وساكنة سوس أن موازين القوى قد اختلت في صالح هيمنة المخزن الذي تجسده الحكومة في هذه الحالة عبر بلاغ وزارة الصحة والداخلية. كما أن قرار ساكنة سوس المستقرة بالمدن الكبرى خاصة في الدار البيضاء وأحوازها، في التنقل إلى مواطنها بالجنوب بالرغم من قرار الحكومة لقضاء العيد خلال هذه الظرفية الصعبة، يمكن تفسيره بعدة عوامل متداخلة ومترابطة، فيها ما هو ديني واجتماعي واقتصادي ونفسي وفيه أيضا ما هو مرتبط بالحب والعشق، فالكثير من الشباب الذين يشتغلون في المدن الكبرى، عادة ما يتزوجون من شابات في مناطقهم الأصلية، وهذه عادة قديمة عند الأسر بسوس، ويبقى العيد فرصة لهؤلاء إما لعقد القران أو الخطوبة أو توطيد العلاقات، وذلك ما يفسر ارتفاع ظاهرة الأعراس في البوادي والسفوح الجبلية. إذن فشدة ارتباط المهاجرين بمناطقهم الأصلية وسفرهم لقضاء عيد الأضحى عند ذويهم هو ظاهرة أنثروبولوجية عميقة تتطلب الدراسة والتفكيك من زوايا نظر مختلفة، تتجاوز ما هو ديني الذي يرتبط بطقوس العيد، إلى قضايا أخرى ربما تكون عصية على الفهم والادراك، وهي ما يربط الإنسان الأمازيغي بالأرض وبمسقط الرأس. فالحنين إلى الموطن يمكن فهمه أيضا بما تعرفه المدينة من تغول وسلطة وتفكك للقيم ومن افتراس لحقوق الفئات الهشة من المجتمع.
بخلاصة الدولة تريد جمع كل مواطنيها تحت أسقف الإسمنت والحديد، لكنه على الرغم من سنوات التفقير والتهجير، ما زال الأمازيغ يتحدون تحولات التحديث ويجابهون إكراهات الذوبان والتعريب، ويحملون دوما الحنين إلى الطين. الأجساد والأرواح دائما تحن إلى التراب في مفهومه الأنثروبولرجي وليس الإداري.