الدمياطي" كمبحث "إبستيمي"

أربعاء, 07/29/2020 - 11:47

مرّة أخرى ها أنا ذا ألجأ إلى هاته الشرفة. كلما أحسست بضيق أو ضجر، أقصد هذه النافذة بالذات وكأنِّي أرمي بثقل الوِزر من ها هنا إلى تلكم الحديقة التي تشبه غابة صغيرة. فأجدني مأخوذا بسحر وهيبة هذا القصر المسمى "فيلا الريسوني"...

لم يكن اسم الريسوني يعني لي الكثير. وحين كنا نتكلم عن فيلا الريسوني لم يكن الأمر يختلف عن دار المنبهي، أو غرسة غنام، أو عمارة بن عبد الصادق. لكن فجأة أخذ ذاك المجنون الزيناتي، يقصفنا بمقالات عن الشريف الريسوني وعلاقاته الملتبسة بالإسبان. يبدو أن إعجاب خاي احمد بالشريف يرجع إلى نوع من الشوفينية الزيناتية، نسبة لسبت الزينات عاصمة الثعلب أحمد الريسوني.

...

-من الأدب واللياقة أن تصحب زوجتك في مناسبة كهاته...

-عن أي مناسبة تتكلمين، لست متأكِّدا أني فزت بشيء ما ...

-رجاء لا تستغفلني، الأمر واضح... لا يمكنهم أن يستدعوا سوى الفائزين...

-ليس بالضرورة... ثم إذا اصطحبتك معي، فمن الأدب واللياقة كذلك أن تذهب معنا أختك...

-طبعاً، إنها أختي ...

-جميل، وإذن يجب أن يأتي معنا، خالد الغَبي...

-اسمه خالد ... وهو الآن مسافر...

-لماذا كل هذا التعقيد...؟ دعيني أذهب وحيداً وأعود بسرعة...

-كنت أعرف أنك لا تريدنا معك، والدليل أنك أخفيتَ الاستدعاء لمدة ثلاثة أيام ولولا أني اكتشفته صدفة، ما كنت لتكلمني في هذا الموضوع.. الرجولة مِلّة واحدة، لا أمان فيكم ... اذهب يا سيدي لوحدك... أو بالأحرى مع تلك التي تلهمك في كتابة تلك الطلاسم...

لا أخالني محظوظاً إلى هذه الدرجة، هكذا أوحت لي نفسي الأمّارة...

سكتت وأنا أتأمل الاستدعاء الموضوع أمامنا فوق المنضدة. حفظت عن ظهر قلب تلك الجملتين:

تتشرف جمعية المبدعين الشباب، فرع طنجة، باستدعائكم لحفل توزيع الجوائز على الفائزين بالمسابقة الثقافية التي شاركتم فيها. وسيُقام الحفل بقاعة المهدي المنجرة بالمركز الثقافي الفرنسي.

رباّه... المسألة معقدة من البداية.

...

منذ ثلاثة أسابيع كنت قد قرأت إعلانا صغيرا في جريدة يبدو أن أحدهم نسيها، أو تخلص منها، بمقهى ''الحافة''. كانت أول وآخر مرة أقرأ فيها جريدة ''أخبار الفنانين'‘، ذكّرتني بمجلة قديمة اسمها ''الموعد'‘، لكنها أكثر تفاهة من هذه الأخيرة. وفجأة اصطدمت عيني بإعلان صغير يفيدُ بِأنّ جمعية المبدعين الشباب ستقيم مسابقة في الشعر العربي والفلسفة، بمساهمة وزارة الثقافة والمركز الثقافي الفرنسي. إذا كان من الصعب أن تجمع بين عنصرين من هذه ''الحجاية'' فمن المستحيل أن تجمع بين كل العناصر... شعر عربي، فلسفة، المركز الثقافي الفرنسي، ''أخبار الفنانين''... ويزيد هذا الاستدعاء في تشويش الصورة. حسب علمي، فالمرحوم المنجرة كرس جزءا من حياته في مناكفة الفرنكوفونية بالمغرب، كيف يطلقون اسمه على قاعة في المركز الفرنسي؟

...

لقد كانت زوجتي صادقة، فمنذ ثلاثة أيام وأنا محتفظ بالاستدعاء. الوحيد الذي يعرف بالموضوع هو أخي حميد. ا تصلت به فور توَصُّلي بالرّسالة، وعلقت على اسم القاعة، أجاب ساخراً كعادته: قلت لك أنك الشخص الوحيد في طنجة الذي يمكن أن يفوز في مسابقة للشعر العربي والفلسفة، مدعومة من المركز الثقافي الفرنسي ووزارة الثقافة المغربية. وكعادتي تماهيت مع عبثيته، وقلت له، ويبدو أني الوحيد في العالم الذي سيدخل قاعة المهدي المنجرة في المركز الثقافي الفرنسي.

في الواقع سخرية أخي حميد ساهمت إلى حد ما في نوعية مشاركتي. حين كلمته عن المسابقة في أول الأمر، سألني مستغرباً:

-أحقاً تريد أن تشارك؟

- نعم ...

-ولكن متى درستَ البحور والأوزان...؟

-ممم... لدي بعض المحاولات في الشعر الحر.... أعتقد أنها لا بأس بها... المشكلة في الفلسفة...

-وماذا عن المفردات الرنّانة التي صدّعت رؤوسنا بها في الفايس بوك...

-لأني وجدتكم ''ولاد الناس'' ولا تحرجونني.. أما في الحقيقة فلست أكاد أعرف من الفلسفة سوى أفلاطون وأرسطو... آه... أعرف أيضا سقراط...

-وهل من الضروري أن تشارك في الشعر والفلسفة معاً؟

-نعم يا صديقي، يبدو أنهم يبحثون عن أبي العلاء المعري في طنجة...

وبنوع من السوريالية التي تقتحم أحاديثنا دون مقدمات، فاجأني حميد قائلاً:

-لدي موضوع مهم في الفلسفة يمكنك أن تكتب عنه...؟

- أفِدْنا أفادك الله ...

-شخصية السَّماوي الميطافيزيقية...

-الله يداوي ... أفضِّل أن أكتب عن الدّْمياطي...

غيّرْنا الموضوع إلى مواضيع أخرى... ثم افترقنا.. في طريقي إلى المنزل بدأ موضوع الدمياطي ينمو كوَرم سرطاني ما فتئ أن سيطر على عقلي... كل ما أعرف عن هذه الكلمة، أنها تطلق على شيء صعب، غير مفهوم.. وأحيانا على السحر والشعوذة... ثم ماذا؟ لا أعرف...

طبعاً، لم أخبر زوجتي بشيء... مباشرة بعد وجبة العشاء، اسْتَفردت بالحاسوب وتيمَّمت قبلة ما بات يُعرف بالحاج غوغل.

ما يعجبني في زوجتي أنها ما إن تراني منهمكاً في بحثٍ ما، إلّا وتحترم ''مسافة الأمان''، وتدعني ''متشرنقاً'' في عالمي الخاص، بل إنها لا تسألني عن موضوع البحث ولا ما ذا سأفعل به... نذرْتُ أنً أهديها أولَ جائزة إِن فَهِم أحدهم ماذا أكتب...

المهم... رقنتُ كلمة ''الدمياطي''، على بركة الله... 450000 نتيجة في 0.5 ثانية. يبدو أنني من القلائل الذين يقرؤون كم من الوقت استغرقه غوغل في البحث... على أيٍّ...

هناك من يتكلم عن الدمياطي كسحر، كقراءة للقرآن بالمقلوب... هناك مطعم الدمياطي بالزقازيق بمصر... وأطرف تعريف للدمياطي كان من أحد الظرفاء المغاربة: الدمياطي هو ما يلي(bac+5) أُس 15.

ما يهمني في المرحة الأولى هو الاطمئنان إلى وجود مادة خامة لابأس بها.. السؤال الثاني، كيفية تكييف هذا الموضوع العجيب، لِتخريجه كبحث فلسفي... بعد وقت من التأمل، اخترت كلمة إبستيمولوجيا. كلمة ذات رنة فلسفية وتوحي بأنك تفهم أكثر من الآخرين... في الحين استحضرت جوابا قلته لأستاذ الفلسفة حول معنى كلمة الفلسفة، ''نوع من العبث الفكري'' ضحك التلاميذ وغضب الأستاذ، ثم طردني من القسم. في امتحان البكالوريا لا أتذكر ما ذا كان السؤال، كل ما أتذكر هي الخاتمة ''لا يهم صحة جواب المجيب من خطئه، كل ما يهم هو إثراء النقاش الفلسفي، وهذه هي روح الفلسفة'' أُصِبتُ بهستيريا من الضحك حين رأت النقطة، واحد على عشرين.

وكعادتي وجدتُني في حالة شرود، ويبدو أنها حالتي الأصلية... من يا ترى سيُقَيِّمُ هذه المشاركات، يجب أن يكون في اللجنة شعراء وفلاسفة. ولكن من مَن الشعراء الذين يستحقون أن يُقيِّموا مشاركاتنا، اعتصرت ذاكرتي، استحضرت اسم محمد بنيس. في الفلسفة أعرف أن لدينا طه عبد الرحمان، محمد سبيلا والعروي ... ثم تمرّد عليَّ عقلي وتساءل من هو أصلا وزير الثقافة المغربي؟

سلاّم الودغيري، أمين حزب الحركة من أجل الثقافة، أمازيغي متعصب. يحكى أنه في إحدى جلساته الخاصة قال إن العرب سيخرجون من المغرب كما خرجوا من الأندلس. أُعْطِيَ منصب وزارة الثقافة لترقيع الأغلبية الحكومية. ثم تماديت في غيِّي وأخذتُ أتفحص أسماء ووجوه الأمناء العامين للأحزاب، لأرى أيهم يصلح وزيراً للثقافة، بل وزيراً لأي وزارة...

الرجوع نالله ... الدمياطي والإبستيمولوجيا... يجب أن أركبهما في ''جملة فلسفية'' أو لنقل عنوان لبحث فلسفي. الدمياطي كمبحث إبستيمولوجي، بين الواقع والمخيال الجماعي... هل هناك شيء أفضل؟ الدمياطي كمبحث إبيستيمولوجي، واقع واحد ومقاربات متشاكسة... أعتقد أنه عنوان طويل.. لنتركه كما يلي ''الدمياطي كمبحث إبستيمي''....

حتى لا أضيع أكثر قررتُ التعاطي من الدمياطي كنوع من السحر...'' من المعلوم أن تاريخ السحر كممارسة يكاد يتطابق مع تاريخ البشرية. في بحثنا هذا لن نطلق العنان للفضول المعرفي الفائرُ بدواخلنا لإماطة الغبش المُركّب الذي يكتنف هذا الموضوع. بتواضع الباحث الذي يعرف حدود إمكانياته، وإكراهات الموضوع/ اليم الذي أنوي الخوض فيه سأقتصر على ''الدمياطي''. لا بل حتى هذا الفرع، سأكتفي منه بالجانب الإبستيمولوجي، تاركاً جوانب أخرى كالبسيكولوجي والسوسيولوجي إما لفرصة أخرى، أو لباحثين / غواصين آخرين أصابهم ما أصابني من عشق المعرفة ''...

مقدمة لا بأس بها... إلى العمل... كوبي / كولي مع بعض الترتيبات جمل للربط.. ومن ثم... وحيثما... وإن كنت أرجح هذه المقاربة، لكن ثمة اتجاه آخر يرى أن الأمر عكس ذلك...

البحث شبه جاهز...

أعدتُ قراءة النص... هُراء مُرصّع بالجنون... مخلوق هجين، مليء بالثغرات، وأحياناً تناقضات فجة... جاءتني مقولة ''صلاتي لا تعجبني فكيف تعجب ربي...''

فكّرت أن أترك هذه التُّرهات وأذهب للنوم... لكن مشاكسات داخلية حدثت بين الأنا والأنا الأعلى والهُو وعقُد الماضي والمستقبل... وكان القرار ألا أستسلم...

"تدوير الزوايا''، تطلق هذه العبارة على المهمات الصعبة، أو الشِّبْه المستحيلة، وهذا بالضبط ما كنتُ أودُّ فعله، أن أخلق معنى لِلّامعنى.

ومرة أخرى أخذت أتساءل، هل فعلا يجب أن يكون لكل شيء معنى في هذه الدنيا؟... لكن في حالتي ستكون لجنة وتقييم... حسناً، من قيم أغنية ''دي دي.. دي دي'' للشاب خالد، أو أغنية ''سو يا سو.. حبيبي حبسوه..'' لمحمد منير... بالمناسبة لست أدري من هو صاحب أغنية ''كاع كاع يا زبيدة...''، رغم تحفظي على المعنى لكن إيقاعها جميل.

لنعدْ إلى تدوير الزوايا... ما العمل يا ترى؟

سألجأُ إلى حيلة خبيثة تستعمل لتصريف الغذاء الفاسد: الإكثار من البهارات... الميطافيزيقا، البارابسكولوجية، تجاوُز الزمكانية... ثم مزيد من المُحسنات اللغوية التي تعني كل شيء ولا شيء...

لا بأس، لقد أتخمت البحث بعبارات تكفي كل المتفقهين في طنجة وربما أصيلة.

وكوني محتاج إلى طمأنة نفسي أني لا أمارس العبث، يمكنني الادعاء أنني في آخر المطاف لم أكن سوى شرطي مرور ينظم سير الأفكار. ثم بالله عليك، دُلَّني على شيء واحد في المغرب ليس هجيناً. حكومة تجمع بين اليمين واليسار. قانون نابليون مع الشريعة الإسلامية. سلعة تشتريها من المضَيق وعلى مشارف المدينة يصادرها الجمركي وكأنك أتيت بها من هونكونغ. صحيح أن بعض التناقضات مقززة ومثيرة للأعصاب، لكن هناك بعضها مثير للسخرية. كالقانون الذي يجرم بيع الخمر للمسلمين عِلماً أنه تم تقدير الاستهلاك المغربي لكل أنواع الخمور بأكثر من 130 مليون لتر سنة 2013. حاول أنت أيضاً أن تقنعني بأن السياح، غير المسلمين، هم من وردوا تلك السيول. ويمكن أن نتكلم أيضاً عن قوانين تجرم زراعة وبيع المخدرات، وكأن كتامة توجد في جاميكا. على ذكر الخمر والحشيش، وجدتني أفكر في أحد زعماء المعارضة، الذي اتهم سبعة وزراء بمعاقرة الخمر... رد عليه القائد يونس فنوش: يبدو أن شباط تحول إلى ألكوطيسط (جهاز اختبار للكحول).

ليس هذا موضوعنا، أودُّ فقط أن تعرف '' اللجنة ''أن كل شيء في هذا الوطن متناقض، مُرقع وفي أحسن الأحوال حمّال أوجه. وعليْه فبحثي ليس بِدْعاً من ''السيسطيم''، بل لعل القلق الذي يمور في أحشائه هو ما يضفي عليه نوعا من ''الأصالة ''.

انتهينا إذن من النَّص الفلسفي، تبقى القصيدة الشعرية. تبسمت، وقلت في نفسي، أمَّا هذه فمُيَسرة نوعاً ما. بحثت في أرشيفي، لم أجد خيراً من '' قصيدة'' كنت قد اخترت لها عنوان ''هكذا تكلمتْ ديوجينة''. على الأقل العنوان يتماشى مع النَّفس الفلسفي الذي ارتضاه المُنظِّمون. جملة ''هكذا تكلم'' توحي إلي الفيلسوف نيتشه وكتابه ''هكذا تكلم زارادشت". أما ديوجينة فهي تأنيث لديوجين، وهو فيلسوف كان يحمل مصباحاً في النهار ويقول: "أبحث عن إنسان، كما اشتهر بلقائه الطريف مع الإسكندر. كان مستفزا لقومه لدرجة أنهم أطلقوا عليه اسم ديوجين الكلبي".

لكن مصدر اعتزازي بالعنوان ''هكذا تكلمت دْيوجينة'' هي فكرة تأنيث اسم أحد الفلاسفة. لا أذكر أني قرأت لأحد كتب عن ''سُقراطة''. لا جرم أن هذا السبق يعتبر قيمة مضافة ستُؤخذ حتْما بعين الاعتبار ...

راجعتُ ''القصيدة'' أعدت ترتيب بعض الجمل.. حذفت بعض الزوائد، ومرّة أخرى يجب الإسراف في مساحيق التجميل، علّها تُخفي جهلي بأُصول الصنعة. وانتهينا….

البحث والقصيدة في ليلة واحدة، إنجاز هائل...

-الصلاة خير من النوم ...

-صدقتَ وبَررْتَ...

حينما يتلكم الإفرنج عن ليلة كتلكم الليلة يصفونها بأنها "نوي بلونش"، ليلة بيضاء ...

بعد أسبوع توصلت بالاستدعاء... حاولت أن أخفيه، لكن زوجتي اكتشفته صدفة. وفي اليوم الموعود، أظنكم سمعتم بعض اللحظات الحرجة من النقاش. ما لم تسمعونه هي أنها ستقضي بقية النهار والليل مع أختها.. طبعا لم أمانع. مِن عادة زوجتي أن تبيت عند أختها حين يسافر زوجها خالد المُغفّل... لقد أقامت نعيمة معنا سنتين قبل أن يراها صديقي خالد ويُخلِّصني منها ومن فضولها. جزائي له على المعروف الذي أسداه إليّ هو أني وجدت له سكناً رخيص الإيجار بالعمارة التي أسكن فيها بحي مرشان... مرشان أُمي إن غابت أُمي... هكذا كنت أدندن في الطفولة وهكذا عدت إلى هنا...

أمّا اليوم فأنا فعلا محتاج لأختلي بنفسي. رغم أني تظاهرت أمام زوجتي أني لست متأكدا من فوزي بإحدى الجوائز الأولى، إلّا أن إحساساّ قويا كان ينبئني أني مُتوّج لا محالة. وأخيراً وُجِد من يفهمني... لا يمكن أن يكون كل المغاربة أغبياء... ثم كوْنُ رجل مثل سّي سلاّم على رأس الوزارة لا يعني أن الثقافة في البلد تعاني من الأنيميا، وها هو الدليل، أشرفوا على مسابقة طريفة تجمع بين الشعر والفلسفة. لا جرم أنهم اختاروا لجنة كفؤة استطاعت أن تفك الشفرات الكامنة بيْن ثنايا كلماتي، سواء في القصيدة أو البحث.

ما إن خرجت زوجتي، حتى أسرعت بأخذ حمام خفيف. ثم توقفت لأختار المناسب من اللباس. بدلة مع عقدة العنق... لا... كلاسيكي أكثر من اللازم... سروال الجينز مع قميص... هكذا أحسن... لن ألبس طبعاً الحداء الرياضي... يستحسن حذائي الخفيف...

ما زال على الموعد ثلاث ساعات. يجب أن أتدرب قليلا على الإلقاء... وقفت أمام المِرآة.

أعتقد أنه من الأفضل أن أستهل الكلمة بالبسملة... لكن ماذا لو امتعض بعض الحاضرين. لا زلت أذكر أني أثناء إعداد إحدى البيانات النقابية كنت قد اقترحت إضافة ''باسم الله الرحمان الرحيم'' في مقدمة البيان، لكن ''الرفاق'' رفضوا يومها...

حسناً، سأكتفي بمساء الخير... ربما طاب مساؤكم، تبدو ألطف...

الشكر موصول إلى كل من ساهم من قريب أو بعيد في إنجاح هذه التظاهرة الثقافية في مدينتنا الحبيبة طنجة. أعترف أنني لم أكن أتوقع أن أحظى بهذه الجائزة، لكن يبدو أن دعوات أمي تلاحقني...

هنا يجب أن أصمت قليلا، لأن اللجنة والجمهور سيضحكون...

صحيح أن المسابقة كانت في الشعر والفلسفة وصحيح أن موضوعي الفلسفي تعلق بالسحر، لكن صدقوني لست بشاعر ولا ساحر...

هنا أيضاً يجب أن يضحكوا... بعد ثواني قليلة، يجب أن أرفع صوتي، هكذا تكلمت ديوجينة، ماذا لو أقحمت كلمة أو كلمتين بالفرنسية... سأعطي الانطباع أنني موسوعي، كاتب وشاعر، ومتعدد اللغات... لكن المسابقة باللغة العربية، صحيح أن المركز الثقافي الفرنسي هو الذي تبناها، لكن إقحام اللغة الفرنسية في هذه المناسبة لن يكون سوى نوع من التنطع.

لننسى إذن مسألة الفرنسية... أظن أن أحسن وسيلة لترك انطباع جيد هو تصنُّع التلقائية... ابتسمت وأنا أتأمل هذه الجملة '' تصنُّع التلقائية ''... هذا النوع من الجمل تسمى بذات الحدّين المتناقضين ك ''لذة الألم '' وربما أيضاً ''ديموقراطية العرب'' أو حتى ''سعادة الزوج''... على ذكر سعادة الزوج، لماذا يبدو خالد الغبي سعيدا مع نعيمة أخت زوجتي، هل هو فعلا كذلك، أم تراه يتصنع التلقائية هو الآخر...

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.

غفر الله لي، لست أذكر كيف أقنعته بالزواج منها، كان كل همي هو التخلص من ثقل دمها... أي آيات شيطانية رتلتها عليه... أتراني أقنعته بأنها من الغرانيق العلا وأن شفاعتها تُرجى...

يوسف... ركز قليلا، لم يبق الكثير من الوقت...

هكذا تكلمت ديوجينة...

لم تكن رؤيا.. لا... ولا كابوس... غالب الظن، أنها كانت حالة... روح أنثى في الهاجرة تمشي، وقد تدلى من يمناها فانوس.. صورة لها ألف دلالة.. هنا يجب أن آخذ نفس...

... لا أبحث عن رجل، قالت، وما كانت تحتاج إلى مقالة.. حين أنطق كلمة لا، يجب أن أشفعها بتحريك السبابة سيكون الوقع أكبر على الجمهور...

استغرق الكاستينغ أكثر من ساعة. كان بوُدّي أن أقرأ المقالة الفلسفية بصوت عالٍ، من يدري ربما طلبوا مني أن أقرأها للجمهور... لا أظن ذلك، فالمقالات الفلسفية طويلة ومُملة. صحيح أن الموضوع الذي اخترته جديد وأسلوب كتابتي يمزج في تموجاته بين المتانة والسلاسة، بين الصرامة العلمية وبعض المستملحات، لكن لا أظن أن يطلبوا مني قراءته. غالب الظن سيقومون بنشره في مجلة مختصة...

ولكن ماذا لو حاول مُقدِّم الأمسية أن يجري معي حواراً قصيرا بعد التتويج فيسألني مثلا لماذا تكتب؟

''أعتقد أن الكتابة هي إحدى وسائلي لتفادي الصدام مع زوجتي...".

كفاني تهريجاً، هناك فرق بين خفة الدم وبين السماجة... لا يليق إقحام زوجتي في كل شيء...

يجب أن يكون جوابي أنيقاً وأصيلاً...

-في الواقع أنا لا أعتبرني أكتب نصوصاً وأبياتاً، بل أرسم لوحات...

لكن ماذا لو عاد فسألني لماذا ترسم إذن... فلأبحث عن جواب أبسط...

الكتابة بالنسبة لي تصريف لتلكم الأصوات المعتملة في دواخلي... أظنه أسلوب منمق أكثر من اللازم... كما أنه لا يختلف عن مئات الأجوبة التي قيلت في مثل هذه المناسبة..

وإني وإن كنت الأخير زمانه... لآتي بما لم تستطعه الأوائل.

بما ذا كنت ستجيب سائلنا ''لماذا تقرض الشعر يا أبا العلاء''...

سأفكر في الأمر وأنا في طريقي إلى المركز الثقافي الفرنسي... لكن علي أن أجد الفكرة العامة.. حسنا سأقول بأن الرغبة في الكتابة تنتابني بطريقة شبه ميكانيكية، كما البركان الذي ينفجر استجابة لدرجة من الضغط، أو بحدة أقل كما الإناء ينضح حين يمتلئ... بتعبير آخر، كل الناس لديها مَداخل إدراكية ومخارج، نوع من input وoutput. بالنسبة لي فالكتابة واحدة من هذه المخارج. أخالها فكرة لا بأس بها، سأصقلها قليلا، أو ربما سأتركها لتلقائيتي تفعل فيها الأفاعيل... على ذكر تلقائيتي، عليّ أن أتحكم في حركات يدي... فأنا من الأشخاص الذين يتكلمون بأيديهم أكثر من لسانهم... في مذكراته عن تجربته في العراق، سخر بول بريمر كثيرا من الجعفري وحركات يديه... لن أسمح لعفويتي، أو ربما عصبيتي، أن تخدش الاستحسان الذي سأخلِّفه... لن أقبل بتعليق على غرار: كان رائعاً ولكن...

القميص الذي لبست، فاتح نسبياً، لذلك عليَّ ألاَّ أقوم بأي جهد عضلي حتى لا أعرق. آخر إطلالة على المرآة، قليل من الجيل على الشعر... لست أدري لماذا لست مرتاحاً في هذا القميص، سأغيره.. لو كان معي أخي حسن لكان قد حسم الأمر من الأمس واختار لي ما ألبس.. زوجتي خرجت غضبانة إلى أختها... لا بأس، سألبس تي شورت أسود، وأحتفظ بالحذاء الخفيف... قليل من العطر... آه، يجب أن أتأكد هل لدي ما يكفي من المال... أظن خمسين درهما تكفي، سآخذ التاكسي فقط في الذهاب وأعود على قدمي... ولكن ماذا لو كانت الجائزة ثقيلة، موسوعة علمية، أو سلسلة دواوين... حسنا مائة درهم... المركز الثقافي الفرنسي ليس بعيد من مرشان. قبل أن أذهب لا بد من بعض المشاكسات... تلفون إلى أخي حميد ...

-ألو صاحبي، أما زلت مُصرّاً أن لا ترافقني إلى المركز الثقافي..

-اعذرني، فعندي بعض الالتزامات...

-لا بأس، إذا دخلت إلى المنزل اقلب إلى الجزيرة مباشر.. ستجدني أتحدث عن ديوجينة... الحمد لله الذي أبدلني بأميين أمثالكم، رجالا من تلاميذ سِّي سلاّم.. ما زالت الثقافة بخير في هذه البلاد... إلى الملتقى، سأحكي لك التفاصيل في ما بعد..

ولكن لماذا لم أفكر بأخي محمد، لو طلبت منه إيصالي، فلن يمانع... من الأحسن ألا أزعجه... ربما أشتري سيارة بعد أن أنال جائزة البوكر... كل آت قريب...

حملت الاستدعاء ثم خرجت.

توقف التاكسي عند باب المركز. لم يسبق لي أن دخلته من قبل. ليس هناك ما يشي بتظاهرة ثقافية كبيرة. لم أودّ أن أسأل أحداً. تبعت أحد المتسلِّلين، ثم وجدتُني أمامها، لائحة مكتوبة بالفرنسية: قاعة المهدي المنجرة.

هناك اختلاف في الميثولوجيا اليونانية عن اسم إله الوقت هل هو كرونوس أو خرونوس. في الواقع لا يهمني اسمه بالضبط كل ما أريد معرفته هو سبب كراهيته لي... لا أذكر أنني الْتزمت بموعد ما، مهما حاولت... درست في طفولتي بمدرسة حفصة أم المؤمنين و كانت تبعد عن منزلنا بأقل من 200 متر ثم انتقلت إلى إعدادية ابن الأبار وتفصلنا عنها أقل من 100 متر فثانوية زينب النفزاوية التي كانت تتطلب ستة دقائق للوصول إليها، لكني كنت غالبا ما أصل متأخراً... وحين اشتغلت في فترة ما بمدينة تطوان سكنت فوق الإدارة التي كنت أعمل فيها، و... من شبَّ على شيء... لك أن تفهم أني دخلت قاعة المهدي المنجرة ووجدت أحدهم يتكلم...

جلست في الصف الأخير، ليس تواضعا ولا لأن المجلس انتهى بي إلى هناك. تعمًّدتُ ذلك لأنه عندما سيُنادى على اسمي سيدير الحاضرون رؤوسهم للبحث عني وسيكون عندي مجال أكبر للظهور وأنا أُهرول نحو المنصة... سمها غرورا أو حبا للظهور... أنا سأسميها لحظة الانتشاء بالتتويج ...عليَّ أن أستغل كل سنتيمتر وكل ثانية، وعهْد منّي لن تكون هذه الليلة سوى الدرجة الأولى لمنصات أعلى.

ابتسمت وأنا أسمع تعليق طريف للمقدم، ذلك بالرغم من أن الإعلان كان واضحاً في كون المسابقة تهم الشعر العربي، إلا أنهم توصلوا بمحاولات مكتوبة بالفرنسية والإسبانية أيضاً.

''وكي لا أطيل عليكم سنمر مباشرة إلى الإعلان عن الفائزين بالمراتب الثلاثة الأولى''.

الجائزة الأولى، يسرى بلعايش، سمعت بداخلي صرخة على إيقاع أيياي، حين يضيع ميسي هدفاً محققاً.. عنوان القصيدة، كن بجنبي. عنوان البحث، نقد فلسفي لكتاب نهاية التاريخ لمؤلفه فرانسيس فوكوياما.

''فيها خير..'' قالت نفسي لنفسها...

الجائزة الثانية، يوسف ت..ت.. تململت في مكاني وكدت أصرخ، اسمه يوسف اتباتو..

تواتي.. أعيد، يوسف تواتي.

"الله ينعل والديك، قلتها هذه المرة بشكل شبه مسموع.....".

عنوان القصيدة، في القلب يا وطن، عنوان البحث، نيتشه والنازية، أيَّة علاقة..

الجائزة الثالثة.. ثم صمت، وأخذ يتبادل الهمسات مع أحد أعضاء اللجنة.. وكأن الأمر مقصود.. جهان الخمليشي، عنوان القصيدة، متى ستغضب،

الآن أجبته بمرارة...

عنوان البحث، ابن رشد من زاويتن.

استحضرت جملة قالها المرحوم الحسن الثاني في كتاب ذاكرة ملك مفادها أنه في بعض اللحظات العصيبة تنتابك أفكار كاريكاتورية. فعندما كانت الصحون تتطاير بفعل الرصاص أثناء الهجوم على قصر الصخيرات، تساءل ملكنا عن وجود شركة تأمين للأواني ...

كان حَرياًّ بي أن أتساءل عن شركة تأمين عن الأزمات النفسية، لكن كل ما استحضرته حينها هو المقطع الجميل لِلْجميل عبد الهادي بلْخياط ''الصدمة كانت قوية.. كانت قوية... والصدمة كانت قوية…'' ... استفقت على صوت المنشط وهو يبشرنا بمفاجأة الأمسية الثقافية، الفرقة الفرنسية للبالي...

قلت في نفسي ساخراً، هذا هو الشيء الوحيد النشاز في هذه التظاهرة... في الواقع وبمناسبة مسابقة الشعر العربي الذي ترعاه وزارة سّي سلّام، والمقامة في قاعة المهدي المنجرة بالمركز الثقافي الفرنسي لا بأس من فرقة البالي ولكن كان يجب أن تكون من أفغانستان أو الصومال ...

غادرت القاعة تاركاً وراء ظهري فتيات كالفراشات يتنقلن على رؤوس أصابع الأقدام. لم أستفق إلا على صوت ''شي بركة ألْخَوا''

إنه، أطيلا أو بالأحرى أطيلا الثاني..... متشرد مستقر في باب طياطرو. الثاني، لأن قبله كان أطيلا الأول، كان في أواخر الثمانينات. لست أدري في أي مكتب تُسجّل أسماء المجانين والمتشردين. أطيلا، بعلولا، اتشمَقْ..

رددت بإشارة من يدي وشفعتَها بتعابير على وجهي وحين نجمع الاثنين تكون المحصلة ''اعطيني التيساع فهاد الساعة''.

دخلت المنزل، غيرت ملابسي، وهأنذا بالشرفة أتأمل فيلا الريسوني...

مرّ على جلوسي الآن أكثر من ربع ساعة. رنة خفيفة على الهاتف، يبدو أنها رسالة خطية. إنها من زوجتي لا بد أنها تجلس مع أختها في البلكون، وقد علمت بِوُصولي حين أشعلت الإنارة.

bessaha ljaiza..

سحقا لمن اخترع هذه الطريقة في التواصل... أُفضِّل أن أقرأ ثلاث صفحات بلغة ما، أي لغة، على أن أقرأ هذه التعاويذ.... أجبتها باقتضاب ''الله يعطيك الصحة ''

في الواقع كان علي اصطحابها معي... من يدري ربما هي من دعت علي حتى غيروا الترتيب...

ولكن منذ متى كانت في المغرب وزارة اسمها الثقافة... أراهن أن سّي سلاّم إذا تولّى وزارة البترول في السعودية، ستنضب كل أبارها...

ربّاه لماذا هذا العنت... أين الخطأ ...؟

لقد اخترت كلمة "الدمياطي" الشعبية وأردت فقط إخضاعها للمصطلح الثري "الإبستيمولوجيا". علما أن هذه العملية، إخضاع ما هو شعبي لمن هو ثري، يقوم بها وسطاء في مستويات عديدة ومنذ أحقاب مديدة..

كنت أقرأ ذات مرة عن الحداثة في الشعر العربي، فاستفزتني هذه الجملة في نص أبى كاتبه إلاّ أن يسميه "قصيدة": العمال يخرجون من أوراق الشجر...

لماذا سمح لهذا الشاعر أن يخرج العمال من أوراق الشجر، و لم يستوعبوا إبستمولوجية الدمياطي..

لست أدري لمادا يتركون الأضواء مشتعلة طيلة الليل في فيلا الريسوني... من يؤدي الفاتورة؟

الرجوع الله أسي يوسف قلت في نفسي...

الدمياطي كمبحث إبستيمي، هل حقاً كانوا ينتظرون مني أكثر من هذا... ألستُ حصاد زرعهم، وابن نسقهم... ألست واحد ممن شاهدو في طفولتهم فيلم "التشاكرباكربن" لنبيل الحلو... ألست من جيل فئران التجارب حيث إصلاح التعليم والتعريب والتخريب...

هكذا تكلمت ديوجينة، حكومة هجينة، سلاَّم وزير الثقافة، قاعة المهدي المنجرة في المركز الثقافي الفرنسي... الشريف الريسوني رجل دولة...

لقد تعبت، سأذهب للنوم.

 

الفيديو

تابعونا على الفيس