في فلسفة الحق لا يكفي أن نكسب الحق لنعيشه بكل القوة الممكنة في الذات البشرية الراغبة في تجاوز تاريخ القهر، فهذا الوجه من الحق مكفول نظريا في الأديان وفي الفلسفات وفي التيارات الفكرية المنظّرة له والمنافحة... أما الوجه المسكوت عنه والمرغوب بشدّة فهو أن نمارس الحق في جمالياته السارية فينا مثل نسغٍ في عروق الشجر، وأن نمارس الجمال في صوغ الحق داخل فكرة الوحدة التي لا تقبل انفصاما، مثل الوردة التي لا تكون إلا بجمالها ولا معنى لها خارج هذا التأطير. معنى ذلك أن نكون بالحق الجميل في جمال الحق لذاتهما لا لشرطٍ خارجي قد يستوعب منه العابرون شيئا آخر غير المصداقية، وقد يركبه العابرون الآخرون لشرعنة اقتلاع الحق من الجمال والجمال من الحق فتحاً لأبواب تاريخ الحق المغصوبِ، وتاريخ الجمال الموؤود.
1- كتابة الحق:
لا نقصد بذلك وجهةً حقوقية ترتبط برصد الكتابة لهذا الإنسان في سيميترية الغصب مقابل التمتع، والنفي مقابل الإثبات، ولكنّنا نقصد بذلك كتابة الحق بما هو حق في ذاتهِ، مجرّدٌ من سياقات التّشْيِيءِ والنزول. ونقصد بمعنى أكثر دقّة كتابة الحق في توجّههِ الجمالِي، وإن كانَ الحق قيمة لصيقة بالواقع. ذلك أن هدف هذا التحبير ليس تسجيل القيمة في تجلّيها السلوكي عبر الممارسة، فهذا شأنٌ سياسي يحوّل القيمةَ إلى أحكامٍ لها دارسوها وباحثوها وأخصّائيوها، أما سياقنا فيرجو كتابَةً للحق في أفق تنظيرهِ لا تظهيره.
والحقّ جميلٌ بالإجماعِ، ولا يختلف في ذلك إلا منازعٌ يركبُ سفسطةً، وهو جميلٌ لأننا نكتبُهُ في أرواحنا قبل كتابته في مطالبنا اليومية، نكتبهُ في سرّائنا وفي ضرّائنا، نكتبه في ثباتنا وفي تحوّلاتنا، نكتبهُ ونحن نعقل الحق ونكتبه ونحن نجهلُ الحقّ.. نكتبه لأنه فينا قدرٌ جميلٌ يُسرِعُ في الاختفاء قبلَ أن نضبِطه متلبّساً في حالةِ شرود.
نكتُبُ الحقّ لأنه ممكنٌ، تتخاصمُ في شأنهِ الطبيعَةُ والثقافةُ، وتسعى كلٌّ منهما إلى تبنّيهِ؛ الأولى تتصوّرهُ طفلاً لا لغة لهُ ولا يعرف كيف يمشي على رجلين، وتراهُ بدْءاً جميلاً للخليقَةِ في صفائها وفي براءَتها، وتعشق فيه توحّشَهُ الباني حتّى ولو افترسَ السبعُ الغزالَةَ، لأنّ الحقّ نسجَ العلاقَةَ بينَهُما نسْجاً يعلُو على الأفهامِ الّتي تَرى في الحقّ تراباً يعجِنُ الكائناتِ ويُسلّمُها للرّيح تذروها كيفَ تشاءُ، فيما الحقّ ماضٍ مضاءَ العدلِ في بناء الموجودِ بناءً يسيرُ في اتجاهِ الوجودِ السّديمِ لا العدمِ.
والثانيةُ تراهُ وجوداً متغيّرا يعشقُ أزمتَهُ قبلَ أن يعشقَ سلامَهُ، وتراهُ تبدّلاً موضوعيا تفرضهُ سياقاتُ الفعل والتفاعل والانفعال بين الموجودات في مسلسل التدافع والإلغاء والإقصاء والغلبَة، وتراهُ دماً مشروعاً يكتبنا في تاريخِ الإنسانِ وينكتبُ فينا إنساناً لا تاريخ له؛ بدعوى أن الحق في منظور الثقافة نسبيّ، والنسبيةُ مدخلٌ شيطاني للولوج إلى عوالم التبرير، والتبريرُ عناوينُ ماسخةٌ ممسوخَةٌ لبناء المصداقيات التاريخية الفاتكة بالحق باسم الحق.
نحن إذن نكتب الحق في سيرةِ هذا التخاصم، لا نحيد عنه، وبالتالي، نعيد سيرَة الحقّ بعيدا عن سيرة الجمالِ، وعشق الجمالِ وتقدير الجمال، ونحن في هذا الديدنِ لا نستريحُ حتّى نقبض على الحقّ ماثلاً لحاسّةٍ من حواسّنا، عندها نقولُ: ها الحقّ.
وما أبعدنا عن حقيقة الحق ونحن نحسمُ في ماهية الحق داخل الوعي المدرِكِ ذاتَهُ بالحواس. وما أغبانا ونحن نفرح بالنصر المبين ونحن نستشعر الحق في لذّةٍ عابرة، وبذلك نكون فتكنا بالحق \ التخييل على مقاصل الحقّ \ التظهير. وهكذا تنزل الكتابة في مدارج السالكين تبحث عن حضيض الإمتاع دون أن تدرك ذلك. وتترك المدارج العُلوية تستجدي العمارَ بحكم الفراغ الفاتك بِها فيها، وفي قممها.
قيمة الحق نكتبها حين نتعالى على شرطيْ الطبيعة والثقافة، لا في إلغائهما، فهذا أمر مستحيل، لكننا نمتلك القدرة على تشذيب العلاقة بينهما لنرى الحق فينا نداءً عُلوياً يبشّر بنبوءاتنا بعد أن انقطعت النبوءاتُ، ويمدّنا بأشكال الوحي المبدِع بعد أن فترت سماءُ الوحي، كي نمارس حقّنا في عمليات التأويل للسماء العامرة بالحق، تأويلاً بانيا لا يستجيبُ لبراءة الطبيعة ولا لتوحّش الثقافة، وإنما يستجيبُ للجمالِ يبيحُه وعيُ الطبيعةُ وللجمالِ يتيحه وعيُ الثقافة، وخارج هذه الإباحة وتلكمُ الإتاحة يكون الحق تأويلاً أرضياً حضيضاً قابلاً لتفجير التخاصم بين الطبيعة والثّقافة في أيّ لحظة تنزع فيها كتاباتنا نزوعاً حسياً رخيصاً.
الحقّ موجودٌ بالقوّة وموجودٌ بالفعلِ، وبين الوجودينِ برزخٌ من اللاتفكير في الحق؛ وهذه هي قاصمة الظهر ألّا نفكر، وألّا نعقل الحق، لأننا إن سلّمنا بالبداهات في استقبال الحق نكون كمن يرى الحق علماً مجرّدا، أو كمن يرى الحق فضيلة مجرّدة، فيكبر بذلك برزخ المسافات بين الضفّتينِ بدعوى امتلاك الحق. وحيث لا امتلاكَ في دوائر الإقصاء فإن العلم يحقّق الحقّ فيما الفضيلةُ توجّهُ الحقّ. من هنا، أدركَ الفيلسوف الكبير هايدڭر قيمة النظر العادل بين الضفتين وهو يصرخ (العلمُ لا يفكّر).
اكتُبْ حقّك في الجمالِ وجمالك في الحق أيها الكاتبُ المترنّح بين العلم بالحق وبين الإحساس بالحق، واكتبْ قبل ذلك خيالك وهو يتحول إلى نبيّ يستقبل الحقّ من الحقّ ويعلمُ أنّ بعضَ المحتاجين للحقّ ينتظرون منكَ أن تُبلّغَ بعضَ الحقّ من الحقّ الذي أنت فيه وأنتَ لا تدرك مقدارَ جمالِ الحقّ فيكَ.
2 - كتابة الجمال:
لا معنى للجمال إن لم يكن نسبياً يعقِلُ ذاته بين ممكنٍ في منظورات البشر، وبين إمكانٍ في منظور التجريد.
وأنا أكتب الجمال أغالط ذاتي، لأنني في حقيقة الأمر لا أكتبه وإنما أكتبُ إحساسي بهِ انطلاقا من قنوات استقبالي الخاصّة، التي هي حصيلةُ تراكم تربوي قديم، منذ الطفولة، أو هي نتيجة استيعاب شخصي لقضايا الجمال.
ومعناهُ أيضا أنني أكتب تاريخ الجمال في أنساقي الضيّقة والمحكومة بشرط الجوانية المحضة، وإذا فكرتُ في كتابة الجمال خارج شرط الذات فإن هذه الكتابة ستعاني الأمرّين في تبني الموضوعية. الجمال والموضوعية يكادان يكونان طريقين متوازيين. من هنا يجمُلُ بنا أن نترك الذاتية تحدد مصير الموضوعية في انسيابية لا في تعسّف يلوي للجمال أعناقا. وهو المحور الذي سنقاربه لاحقا في غضون هذا المبحث المتواضع.
ما هو جميل في نظرك ليس بالضرورة هو الجميل في نظري، والعكس قائمٌ أيضا، لأن مناط القيمة في مبحث الجمال يقوم على التذوق لا على العلم، حتى وإن كثرت مباحث علم الجمال، وانتشرت، إلا أنها تنتهي إلى هذه النسبية العادلة.
فهلِ الجميل جميلٌ في طبيعته هو من حيث هو هو؟ أم الجميلُ جميلٌ فينا وفي طرق استقبالنا وفي طبيعة تمثلنا لمفهوم الجمال وتجلياته؟ فإذا كان الجواب بالفرْضِ الأول كان الجمالُ واحداً وكان مفهوما متواضَعاً عليه واتفاقا حاصلا، وإذا كان الجوابُ بالفرْضِ الثاني فالجمالُ ليس واحدا وإنما هو أشكالٌ متعددة من الجمال ولا حصر لها ولا نهاية إلا بنهاية الموجود الباني لماهية الجمال.
والنتيجة أن الجمال من المنظور الأول ثابت وموحّد وقطعي، في حين أنه من المنظور الثاني متغير ومتحول ومرن. وبين القطعي والنسبي ستزدحم سماء التأويلات بكل أصناف الإدهاش في تذوّق الجمال وملامسته، وستغتني الثقافة الجمالية في أبعادها القريبة والبعيدة بتراكمات المبدعين وخيالاتهم، وبأفكار الفلاسفة ورؤاهم، وبمباحث النقاد وأطاريحهم، وهذا هو مطلب الكتابة في الجمال وبالجمال، ومبتغاها الأعلى.
و في مجال كتابة الجمال لا تخلو أيدينا من تلكم الذاتية المتجذّرة فينا، والتي لا تني تمارس حضورها المستبد والجميل. وهي وإن كانت موغلة في جوانيتها المغلقة إلا أنها قادرة بفعل مادّتها الزئبقية على أن تنفتح، وتتحول إلى تحبير واقعي نوعي، أو بتعبير آخر فهي قد تتحول إلى نزوعٍ موضوعيٍّ في صورةٍ تتحصّل فيها بعض التوافقات الجمعية وبعض المواضعات المشتركة. ومثال ذلك تشكيل وردةٍ في لوحة رسّامٍ مقارنة بوصف شاعر لهذه الوردة، مقارنة بالنحّات ينقشها على صفيح الحجر، مقارنةً بمبدعين آخرين في مجالات أخرى يمارسون على الوردة وجوداتٍ أخرى... فهذه الذاتيات المختلفة والموغلة في الخصوصية التعبيرية وفي المرجعية تتفق على عنصر واحد هو أن الوردة جميلة، بغضّ النظر عن مواطن هذا الجمال وأسبابه... هذا الاتفاق، ولو بدا هيولانيا جدّاً، هو المشترك الموضوعي الماثل أمامنا مهما غرقنا في ذاتياتنا، ومهما ضاقت بنا دوائرها.
يثبت الاستقبال الفردي للجمال حضوره في تلقي استيطيقا الموضوع، لا كمغلقِ نسقيٍّ يستجدي ذاته في مازوشية قرائية ضيّقة، وإنما في انفتاحٍ ممكنٍ، وقادرٍ على إنتاجِ أحكامٍ جمالية تسير بالذوق من التفرّد إلى المشترك، ومن الأنا النرجسية إلى الأنا الجمعية، ومن ثمّة يتحول فعل الجمال إلى موقف نقدي يرى في كل تجربة جمالية عالماً من المساءلة الدائمة المخلخلة للنموذج المعيار في تلقي الجمال، لتأسيس حالات اجتهادية متعددة في هذا التلقي. أنظر مثلا كيف تمّ القفز على معيار المحاكاة الأرسطي ومعيار المثال الأفلاطوني في تفسير الجمال إلى معايير أخرى حداثية وأكثر صدامية للذوق الإنساني. وهي صدامية مطلوبة وفاتحة لآفاق التأويل على مصاريعها الممكنة والفوق ممكنة.
لكن، دائما نطرح هذا السؤال: ما معنى أن نكتب الجمال أو أن يكتبنا الجمالُ؟.
يكمن الجواب في نظرتنا العطشى للتفرد، لا كسلوك تتبنّاهُ الذاتُ، ولكن كصفة لموصوف هو الظاهرة الجميلة. الجمالُ متفردٌ بوجوده، وعلى الأقل هو متميّز عن القطيع المألوف الذي يظل يوقّع مطارقه البليدة على رؤوس أذواقنا، يعنّفها حتى تستحيل رتيبةً موغلة في الرّتابة، وبالتالي نفقد معها قدرتنا على السباحة في سماوات التخييل، الذي أعتبره عنصرا حيوياً لممارسة الحياة في امتيازها المطلوب.
الأنبياء كلهم كانوا جميلين، سواءٌ على المستوى الفيزيقي أو على مستوى القضية، وهم في هذا الجمال العلوي لم يعقلوا الجمالَ لأن الجمال فيهم معقولٌ أصلاً؛ كانوا يمارسونه بدءاً وختاما، في الظل وفي الضوء، في السلم وفي الحرب، في الاجتماع وفي العزلة، في الشدة وفي الفرج، في العلاقات الحميمية مع الأهل وفي العلاقات الدبلوماسية مع الآخر، في النظر وفي الممارسة، وفي كل شيء... لقد كانوا جمالاً يمشي على أرجلٍ من عطاء وبذلٍ ساميةٍ. هكذا أستحضر مثالَ الأنبياء لأنهم شكلٌ صحيحٌ من استيطيقا الموضوع الغني بتجليات الجمال ودروس الجمال وتأويل الجمال، خارج فيزياء البصر إلى (ميتا) البصيرة؛ من ثمّة جاء سلوكهم حكيما بجمالية مفردة وجميلا بحكمة بانية، يتعاملون مع الفعل الإنساني لا من وجهة رد الفعل ولكن من وجهة قراءة الفعل في أبعاده الكونية الجميلة، لأنهم واعون بأن خطوهم لا يقبل الامّحاء وهو الخطو المرصود للاتباع والاقتداء. ولا أظن موضوع الاقتداء يكون فارغا من عنصر الجمال.
الحديث عن الجمال في ذاته لا يخلو من نظر بعيد، والحديث عن الجمال في موضوعه أي متجليا في الإنسان هو أيضا لا يخلو من هذا النظر، لكن اشتغالنا لا يركب صهوات التنظير بقدر ما يروم بحث الإدهاش التوليدي الذي يتناسل مختلفا ومتعددا وإشكاليا في تطبيق الجمال على الظاهرة الإنسانية في علاقاتها المتراكمة مع الوجود وتحولاته الممكنة والمحتملة. من هنا فالكتابة داخل محور الجمال هي الرصد الحقيقي للمفارقة بين الجميل الطبيعي والجميل الصناعي، بين ما لم نصنعه وبين ما نصنعه ويدهشنا، مع العلم أنه يخرجُ من أيدينا القاصرة؛ ورغم قصورها فهي تمكن عمليات الكتابة من امتلاك سلطان الشاعرية وهي تلامس البداهات في تجليها الأول، فتصنع منها صورة للكون الأكبر مجسدا في الجرم الأصغر، وتصنع مع ذلك حلولاً ممكنة لهذا الكون الأكبر ولو عبر جسور الإبداع في مفاهيمه الوجودية الملتبسة.
3 – تركيب:
هل يوجدُ حقٌّ جميل؟ أم هو حقّ وكفى؟ وما مصداقية الحق في وجوده المادي الذي يقبع بالذات في مراقبة الفراغات المادية حتى ولو تعلّق الأمر بحق الكلام والتفكير والتعبير... فهي في آخر المطاف تجليات الحق في الخارج لأنها تبقى في عرف هذا النزوع الفكري مشروطة بالتحقق، والتحقق خارجٌ ماديّ... أما جوانية الحق في ذاته فتكمن في نزوعه الجمالي المجرّد، وفي تجريده لا نقع في سيمياء الأبراج المتعالية عن طبيعة الإنسان التي تبنيها الحاجة، وإنما هو تجريد يروم إنصاف المعنى خارج شرط الظرفية أو الزمانية أو أي شرط يصبح مالكا لقرار الإملاء. إن الحق الذي نرمي إلى ترسيخه هو الحق الجميل لذاته، والفرق هنا شبيهٌ بمن يعبد الله لغاية وبين من يعبد الله لأنه حقيقٌ بالعبادة.