ما مشكلة المدرسة المغربية اليوم؟

أربعاء, 07/15/2020 - 11:06

من عاش المشكلة ليس كمن سمع عنها كما يقال؛ ومن عاش السؤال في سيرورة نضجه واكتمال معناه ليس كمن طُلِب منه الجواب المناسب المفيد انطلاقا من موقع ما أو في سياق ما أو من أجل هدف ما. فالسؤال يستند إلى الفكر الناقد فيقود إلى البحث وإعمال الفكر والنظر واستحضار السياقات المختلفة بينما يستند الجواب إلى اليقينيات فيقود إلى الاستسلام للواقع والقبول بخصوصياته. إن الجواب عن سؤال الممارسة الديداكتيكية، مثلا، يجد شرعية وجوده داخل الفصل الدراسي، عند الممارس لفعل التدريس. وسؤال العلاقة البيداغوجية بالوسط المدرسي يجد شرعية جوابه داخل الوسط المدرسي عند الفاعل التربوي، وسؤال تدبير الشأن التربوي يستمد مصداقية جوابه من داخل البنية الإدارية، عند الممارس للتدبير الإداري. والجواب عن سؤال السياسة التربوية يستمد شرعيته من داخل المؤسسة السياسية، عند الفاعل السياسي. وسؤال الخبرة التربوية يجد جوابه داخل المختبر وفي الميدان، عند الممارس للخبرة والممارس للبحث في القضايا التربوية.

إن مشكلة المدرسة المغربية اليوم هي مشكلة سؤال المشكلة في حد ذاتها، ومشكلة الممارس لفعل السؤال في حد ذاته، أيضا، قبل أن تكون مشكلة أجوبة جاهزة وقابلة للتداول في سوق الخطابات.

بهذا القول أردت أن أبدأ، لأكتب عن مشكلة المدرسة المغربية اليوم، كما أتصورها، انطلاقا من تجربتي الذاتية التي امتدت قرابة ثلاثين سنة منتميا إلى قطاع التربية والتكوين. تجربة هي من أربع مراحل، عشتها مثقلا بالأسئلة المتناسلة. أبحث عن مشاريع أجوبة مقنعة ما تلبث أن تتحول، هي نفسها، إلى مجرد محطة سؤال جديد أكثر عمقا وأكثر نضجا وأكثر تركيبا. ولا أدري بعد كل هذا العمر إلى أين ستقودني وإلى أين يقودني هذا العمر.

هي فعلا تجربة بسيطة متواضعة، قد لا تثير اهتمام الكثيرين، لأنها تجربة لا تغري ولا تنفع الحالمين بمستقبل شخصي مريح. ومع ذلك، بالنسبة لي، على الأقل، هي ليست مجرد تجربة حياة مهنية، ولكنها تجربة سؤال مهني من خلاله يتجدد سؤال قضية المدرسة المغربية ويتشكل في داخلي كفاعل تربوي، سيقودني، اليوم، ليس للتفكير في الأجوبة والبحث عن الحلول للمشكلات التي تعانيها هذه المدرسة، وإنما للبحث عن سؤال السؤال وسؤال المشكلة التي هي مشكلة المشكلات.

المرحلة الأولى:

عندما كنت أستاذا ممارسا لمهنة التدريس بالمدرسة الابتدائية في بداية العـشرية التاسعة من القرن الماضي (1991) بإحدى قرى المغرب العميق، لم يكن اهتمامي يتجاوز الحصول على إجابة شافية ومقنعة عن سؤال كيف أُدَرِّسُ وكيف أصير مُدرسا يحترم نفسه ويحترمه محيطه المهني والاجتماعي. فمال بي الاهتمام إلى عالم الديداكتيك والبيداغوجيا بما أوتيت من جهد وإمكانيات على قِلتها حتى أرتقي بممارستي المهنية. أجتهد فكرا وعملا كي أجعل تلامذتي يفهمون ما أقدمه لهم، وأجعلهم ينخرطون في الأنشطة التعليمية التعلمية والتقويمية بشـيء من الرضى والاهتمام.

وعندما بدأت أتملك بعض المفاهيم وأنحت لنفسي نموذجي الخاص كمدرس، عرفت أني أعيش زمن نموذج التدريس الهادف أو التدريس بالأهداف. وأن المطلوب مني هو الالتزام بما تم وضعه من "توجيهات تربوية"، أعدتها الوزارة لمواكبة هذا النموذج الجديد في التدريس وإرسائه بالمدرسة المغربية. لكن، حتما، لم أكن أعي خلفيات هذه التوجيهات، وخلفيات هذا النموذج، وما إلى ذلك. فكان كتاب التلميذ ودليل الأستاذ وكتيب التوجيهات التربوية عُدة عملي، منها أعِدّ جذاذاتي، وفي رحابها أعيش مهنتي. بعد مدة زمنية من الممارسة والفعل الميداني والتفكير في ممارساتي المهنية وجدتني أعيش قلق السؤال من جديد. ولم تعد الأجوبة الجاهزة تكفيني أو ترضيني. فبدا لي الأمر يلفه غموض ما. لكن ما كنت مقتنعا به هو أن هناك ما هو أعمق من هذه الديداكتيك وهذه البيداغوجيا وهذا الدليل وهذه الكراسات وهذه التوجيهات.

المرحلة الثانية:

عندما دعيت للاشتغال ضمن فريق لتأليف كتاب مدرسي، في بداية هذه الألفية (2003) اشتغلت بحماس في هذا المشروع. وكان لزاما علي، كباقي أعضاء الفريق، الاطلاع على ما يتم تدريسه بالسلك الابتدائي كلية وبجميع مستوياته ومواده الدراسية. كما كان لزاما علي الاطلاع على مختلف الوثائق والأدبيات الرسمية المؤطرة لعملية تأليف الكتاب المدرسي. حينها بدأت أعي أمورا لم تكن قدرتي على النظر، سابقا، تصيبها. بدأت أطرح أسئلة لم أكن أطرحها من قبل، بل لم تكن خبراتي المهنية تسعفني وتؤهلني لطرحها، من قبيل: لماذا اختار الميثاق الوطني للتربية والتكوين المقاربة بالكفايات اختيارا بيداغوجيا استراتيجيا؟ لماذا اعتمد الكتاب الأبيض تلك المداخل المعروفة " مدخل تنمية وتطوير الكفايات، ومدخل التربية على القيم ومدخل التربية على الاختيار" لمراجعة المناهج الدراسية؟ لماذا ندرس نفس المعارف ويجتاز تلامذتنا نفس الامتحانات رغم الاختلاف الكبير في ظروف التعلم والتحصيل؟ بل كيف نعد تلامذتنا لنفس هذه الامتحانات الإشهادية رغم اختلاف ظروف وبيئة التعليم والتعلم؟ لماذا يعمل كل أستاذ في استقلالية عن الآخرين داخل المدرسة الواحدة، مع العلم أن التعلم سيرورة مترابطة في مستويات النمو والنضج المتعدد الأبعاد؟ فتوصلت حينها إلى جواب بسيط مفاده: إن تنمية الكفايات يجعل المتعلمات والمتعلمين يحققون النجاح المدرسي ويكتسبون مؤهلات الاندماج الاجتماعي والاندماج في سوق الشغل. وأن التربية على القيم تجعل المتعلمات والمتعلمين متشبعين بمنظومة قيم تؤهلهم للعيش المشترك والاندماج في المجتمع. أما التربية على الاختيار فتجعل المتعلمات والمتعلمين قادرين على اختيار طريقهم إلى المستقبل بأنفسهم، والانخراط بفعالية في الحياة العامة وفي المسار الديموقراطي واكتساب ثقافة احترام الآخر والاعتراف بتنوع الذوات واختلافها. في حين أن المقاربة بالكفايات في التدريس هي مقاربة تستند إلى عمق نظري معرفي وتطبيقي يقوم على أساسيات من بينها: إن المعرفة تُبنى وتكتسب من خلال وضعيات دالة وفي سياقات متنوعة. وأن المتعلمات والمتعلمين مختلفون من حيث قدراتهم وذكاءاتهم وتمثلاتهم. وأن التعلم ممارسة ذاتية تعتمد ميكانيزمات داخلية ومحفزات داخلية وخارجية. وأن الخطأ منطلق التعلم السليم. وأن التدريس عبارة عن أفعال توجيهية محفزة وسيناريوهات ممكنة تكون جيدة كلما اعتمدت أنشطة مفعمة بالحيوية في بيئة تعلمية آمنة، وكلما كان مضمونها المعرفي وظيفيا يلبي حاجات المتعلمات والمتعلمين.

حينها لم يبق اهتمامي كمدرس محصورا في أنشطتي داخل الفصل الدراسي، وإنما تجاوزت ذلك. أصبحت أبحث عن آليات للعمل المشترك داخل المدرسة. وبدأت أفهم دور الوحدات الوظيفية داخلها، من مجالس ونواد مدرسية وفرق وغيرها. بدأت أعي محدودية الفصل الدراسي في تنمية وتطوير الكفايات والتربية على القيم والتربية على الاختيار. فوجدتني أبحث عن أنشطة أخرى لا تقل أهمية هي الأنشطة المندمجة. بعدما تأكدت ميدانيا أن لها من الأهمية ما يجعلها تتساوى في الأهمية مع الأنشطة التعليمية التعلمية المنجزة داخل الفصل الدراسي. وهنا بدأ الاهتمام بالمشروع التربوي للمؤسسة كفضاء أوسع بدل مشـروع القسم. لكن السؤال المقلق الذي ظل يؤرقني هو: كيف ذلك؟ وفي أي سياق مهني؟ ومع من؟ وما المرجعيات والأدبيات التربوية التي تتيح الوصول إلى هذا المبتغى؟

المرحلة الثالثة:

عندما التحقت بمركز تكوين مفتـشي التعليم (2009) كان ذاك السؤال قد ازدادت درجة نموه فأصبح أكثر نضجا. لكنه، أصبح شقيا وعنيدا، مركبا وعميقا. لقد جئت المركز أحمل في حقيبتي أفكارا مشتتة وملف الأنشطة اللاصفية/ الأنشطة المندمجة ودورها في تنمية وتطوير الكفايات والتربية على القيم والتربية على الاختيار. ومن خلال هذا الملف مارست سؤالي حول المدرسة ووظيفتها. وانتهيت إلى طرح السؤال التالي: إذا كان لكل وحدة تنظيمية أو مادية محرك داخلي ينتج حركتها، أو نظام تشغيل كلي يضبط تفاصيلها، فبأي محرك تشتغل المدرسة المغربية؟ ما الإطار النظري الناظم لعملها ووظيفتها؟ وبعد طول تفكير وجدتني وجها لوجه أمام سؤال أكبر هو سؤال المنهاج التربوي باعتباره الإطار النظري الذي من خلاله تتفاعل تطلعات الفرد بتطلعات المجتمع بهوية المدرسة وبوظيفتها وبجدوى وجودها.

لقد صادفت هذه المرحلة من حياتي المهنية مرحلة ذات أهمية في عمر المدرسة المغربية. إنها مرحلة البرنامج الاستعجالي(2009-2012)، مرحلة تيسير انتقال الإصلاح إلى فضاء القسم والمؤسسة التعليمية. مرحلة مبادرة جيل مدرسة النجاح. مرحلة التدبير بالمشاريع والتدبير بالنتائج. مرحلة تدقيق وتأصيل الكثير من المفاهيم، من قبيل مفهوم مشروع المؤسسة ومفهوم الحياة المدرسية ومفهوم الأنشطة المندمجة ومفهوم الجودة ومفهوم الدليل البيداغوجي ومفهوم الإطار المنهجي لتصريف المقاربة بالكفايات ومفهوم الأهلية المهنية وما إلى ذلك.

لا أخفيكم القول، إن فترة التواجد في رحاب هذا المركز، وفي هذا السياق بالذات، رغم محدوديتها في الزمان (سنتين) قد فعلت بي ما فعلت. غيرت في داخلي كثيرا من الأجوبة. بل جعلتني عرضة لقلق نظري متعدد الأوجه. انتقلت معه من تفكير بسيط مرتبط بالقسم (العلاقة أستاذ- تلميذ- مستوى نماء الكفاية) إلى سؤال مركب مرتبط بالمنهاج التربوي وبآليات تصـريفه إلى سؤال معقد هو سؤال علاقة المدرسة بالتنمية عبر جسر هذا المنهاج التربوي. فوجدتني أشتغل، رفقة زميل، على بحث للتخرج من المركز عند نهاية التكوين بعنوان" القرى التربوية المندمجة ودورها في التنمية المحلية بالوسط القروي". وهو بحث تضمن جزءا من انشغالاتي المرحلية عبر سلسلة من الأسئلة غير الثابتة في قضايا المدرسة المغربية.

المرحلة الرابعة:

عندما غامرت واقتحمت دائرة التدبير الإداري بمديرية إقليمية مسؤولا عن بنية إدارية، كنت على موعد مع مرحلة جديدة. يمكنني أن أطلق عليها مرحلة الخروج من الدائرة لتوسيع الرؤية. إنها مرحلة تغيير جوهري في قناة عبور الفكر والنظر إلى نقط أبعد. مرحلة المواجهة المباشرة مع كل مشكلات المدرسة المغربية وآثارها. مرحلة الانتقال من التفكير في ماهية النشاط التعلمي التعلمي إلى التفكير في ماهية النشاط المدرسي التربوي والتدبيري والتأطيري والتقييمي. مرحلة الانتقال من التفكير في ماهية المدرسة إلى التفكير في مشروع التنمية التربوية على مستوى الإقليم الذي أنتمي إليه. ومن ثمة، التفكير في التربية ودور المدرسة ضمن المشروع المجتمعي الذي أتطلع إلي المساهمة في بنائه والمشاركة في الدفاع عنه كمواطن مغربي.

شاءت أقداري المهنية، إذن، أن أعيش كل مرحلة من هذه المرحل في سياق تجربة "إصلاحية" مختلفة عرفتها المدرسة المغربية. عشت تجربة "إصلاحات" ما بعد مرحلة التقويم الهيكلي التي استهدفت تنميط الممارسات البيداغوجية (المرجعية السلوكية) وتقليص سلطة المدرس(ة) البيداغوجية والتربوية والتدخلية وجعل المدرسة في خدمة السياسة الاجتماعية التقشفية التي فرضها التقويم الهيكلي وتوصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ثم تجربة "إصلاحات" مرحلة التوافقات الكبرى التي كان الميثاق الوطني للتربية والتكوين من بين نتائجها. وهي تجربة استهدفت تأصيل وتعميم الاختيارات الوطنية الاستراتيجية في قطاع التربية والتكوين وإرساء التعبئة المجتمعية حول المدرسة. واعتمدت، بيداغوجيا، المقاربة بالكفايات بديلا عن نموذج التدريس الهادف. وتطلعت إلى تحرير المتعلم(ة) والاعتراف بحاجاته وقدراته. وعشت تجربة "إصلاحات" النفس الجديد التي جسدها البرنامج الاستعجالي بكل إمكانياته وطموحاته واستراتيجياته ومشاريعه. والتي استهدفت الحسم مع مشكلة تعميم التمدرس ومحاربة الانقطاع الدراسي وانفتاح المدرسة على محيطها وتنظيم أدائها وفق استراتيجيات ومشاريع وتيسير دخول "الإصلاح" البيداغوجي إلى الفصل الدراسي. وها أنا أعيش، اليوم، مرحلة ورش تأصيل وبناء النموذج التنموي والرؤية الاستراتيجية 2015-2030 التي تستهدف بناء مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص والجودة للجميع والارتقاء بالفرد والمجتمع. مرحلة القانون الإطار 17-51 الذي يستهدف تحقيق نفس الهدف، "إرساء مدرسة جديدة مفتوحة أمام الجميع، تتوخى تأهيل الرأسمال البشري، مستندة إلى ركيزتي المساواة وتكافؤ الفرص من جهة، والجودة للجميع من جهة أخرى، بغية تحقيق الهدف الأسمى المتمثل في الارتقاء بالفرد وتقدم المجتمع".

ما مشكلة المدرسة المغربية اليوم؟

عبر هذا المسار المهني ومسار نضج التفكير في سؤال المدرسة المغربية في سياق هذا التعدد في التجارب "الإصلاحية" التي عرفتها المدرسة المغربية أجدني أكثر اقتناعا بأن مشكلة هذه المدرسة أعمق من مشكلة طريقة تدريس هذه المادة أو تلك، فيتم حلها عن طريق العدة الديداكتيكية والبيداغوجية فحسب. وأعمق من المشروع التربوي للمؤسسة فيتم حلها عن طريق مشروع المؤسسة بصفته إطارا منهجيا لتدبيرالشأن التربوي بالمؤسسة فحسب، كما هي ليست مشكلة اختيارات استراتيجية وتدبير أولويات فيتم حلها عن طريق إعادة الصياغة والتحيين على ضوء ما عرفته البلاد من مستجدات دستورية (2011) وسياسية (2012). وإنما المشكلة الحقيقية هي في تحديد المشكلة الحقيقية نفسها. ومشكلة السؤال الحقيقي نفسه. لأن كثرة المشاكل التي تعانيها المدرسة تجعل مسألة تحديد المشكلة ذات الأولوية هي المهمة الأكثر أهمية. وأن عدم القدرة على تحديد هذه المشكلة المفتاح يجعل هذه المشكلات الكبرى تتحول إلى أعطاب.

إن منظومة التربية والتكوين لا يمكن وضعها أرضا على سرير كلينيكي لتخضع لافتحاص وسيناريوهات العلاج ثم فترة النقاهة والعودة إلى الحياة الطبيعية. ولكنها كالطائرة المعلقة في الهواء، تحتاج إلى افتحاص وفرضية للإصلاح ومقويات ملائمة وهي في حركة. فالمدرسة المغربية راكمت مكتسبات عدة. لكنها ما زالت تعاني مشكلة أكثر. من قبيل مشكلة الحكامة والريادة، ومشكلة البنيات التدبيرية وقدراتها، ومشكلة آليات انتقاء واختيار الموارد البشرية الملائمة لمهام التدبير، ومشكلة التكوين الأكاديمي والمهني للمدرسات والمدرسين، ومشكلة الخصاص في الموارد البشرية، ومشكلة التعبئة المجتمعية وحصانة المدرسة ضد كل التيارات والرياح الموسمية، ومشكلة آليات تصريف النموذج البيداغوجي في سياق توافق غامض الخلفيات حول طبيعة المواطن الذي تتطلع المدرسة إلى بنائه، ومشكلة انخراط المقاولة والرأسمال في دعم الشعب العلمية والمهنية، ومشكلة انخراط الجماعات الترابية في دعم قطاع التربية والتكوين واحتضان المؤسسات التعليمية، وغيرها من المشكلات. ومن ثمة، فهي ليست مشكلة اختيارات استراتيجية ولكنها مشكلة اختيارات تفعيل هذه الاختيارات.

ففي ظل هذه المشكلة المتعددة الأوجه واستنادا إلى هذه السنوات من الممارسة المهنية والاحتكاك بالواقع وبالفاعلين على مختلف مستويات الممارسة الإدارية والتربوية والتأطيرية والتقييمية صار السؤال في داخلي يكبر ويكبر ليصير أعمق. فلم يعد سؤال "أي مدرسة نريد؟" سؤالا دقيقا، على ما يبدو. وإنما أصبح السؤال الأكثر دقة هو" أي مدرسة نستطيع إقامتها في هذا السياق المركب، وفي ظل ما نتوفر عليه من إرادات ومن إمكانات ومن مؤهلات ومن بنيات تدبيرية. أهي مدرسة النخبة أو ما يمكن أن نسميها مدرسة إعادة الإنتاج كما ذهب إلى ذلك المفكر الفرنسي بورديو؟ أهي مدرسة المجتمع أي ما تسمى بالمدرسة المواطنة، مدرسة الإنصاف كما وصفها المجلس الأعلى للتربية والتكوين في رؤيته الاستراتيجية؟ أم هي مدرسة الاستحقاق أي مدرسة الذين يقدرون ويستطيعون فقط أو ما يسمى بالمريتقراطية أو اللامساواة العادلة، على حد تعبير المفكر البريطاني مايكل يونج؟ أم هي مدرسة "مركبة" في طبيعتها وخصوصيتها؟ تجمع بين هذا وذاك، بين الأصالة والمعاصرة، بين القديم والحديث، بين الانغلاق والانفتاح، بين التنميط والحرية، بين الماضي والمستقبل، بين اللامركزية والمركزية. مدرسة التدبير بالمشروع والصلاحيات المطلقة للمدبر الرئيس والمدير، المدرسة الموضوعة رهن الإشارة يستمد محركها الداخلي قوته وطاقته من الغلبة الحزبية الضيقة والسياسوية ، ومن الخلفية الأمنية بدل الخلفية التربوية، ومن سلطة الرأي العام بدل سلطة الفاعل التربوي، ومن "برامج التعاون الدولي" ومشاريع الدعم العابرة للقارات والحدود بدل الإمكانيات الوطنية، ومن الخبرة التربوية المستوردة بدل الخبرة التربوية الوطنية.

ما الممكن فعله لتجديد المدرسة المغربية في سياق ما يعرفه المجتمع المغربي والعالم بأسره من تحولات؟ أي نموذج بيداغوجي يجعل المدرسة في قلب النموذج التنموي والسوق المعرفية محصنة وقادرة على الإنتاج؟ أي نقاش يجب أن تخضع له المدرسة اليوم؟ أي مشكلة من مشكلات المدرسة المغربية يجب أن تحظى بالأهمية في هذه المرحلة بالذات؟ أهي مشكلة الديداكتيك والبيداغوجيا؟ أهي مشكلة تكنولوجيا التعليم والمدرسة الافتراضية؟ أهي مشكلة الحكامة والبنيات الإدارية والمؤسسات التدبيرية؟ أهي مشكلة الموارد البشرية؟ أهي مشكلة بناء النموذج التنموي أولا ؟

استنادا إلى هذه التجربة المتواضعة لن أتردد في القول إني أجد مشكلة مشكلات منظومة التربية والتكوين في حكامة المنظومة وريادتها، وفي تحصين المدرسة المغربية وتحصين اختياراتها، وفي تأهيل بنياتها الإدارية والتربوية من أجل إرساء نموذج الثقة المجتمعية في المدرسة وفي قدراتها. فمفهوم الإصلاح لا يوجد إلا حيث يوجد الفساد، وهوما يجعلني أكثر ميلا إلى استعمال مفهوم تجديد المدرسة المغربية بدل مفهوم إصلاحها بهدف الملاءمة مع الحاجات الفردية والمجتمعية المتجددة وإعادة بناء مقومات الجِدة عن طريق الاستفادة واستثمار نواتج العلوم والتقنيات والبحث العلمي في مجال التربية والتكوين بدل الحديث عن "الفساد" لأن هذا موضوع آخر يعالج في إطار سياق آخر غير السياق التربوي، بل إنه مفهوم لا ينتقل من مجال إلى مجال إلا على حوامله المقيدة لمطلق لفظه.

إن "النضال" من أجل المدرسة، اليوم، له جبهات متعددة إدارية وتربوية ونقابية وجمعوية وسياسية وإعلامية. فإما أن يكون نضالا من أجل مدرسة وطنية مواطنة دامجة. مدرسة الجميع من أجل الجميع. المدرسة الناضجة القادرة على قيادة نفسها بنفسها في سياق حقوقي وتشريعي وأدبي ملائم تستمد قوتها من المرجعيات الوطنية المركزية وروحها من الجهوية المتقدمة ووظيفتها من متطلبات التنمية المحلية وحاجات الأفراد والمجتمع ككل. المدرسة التي تعتمد فلسفة تدبير القرب وتفويض الاختصاصات وتوفير الإمكانيات والتدبير بالتعاقد وربط المسؤولية بالمحاسبة. وإما كان "نضالا شوفينيا" يتاجر باللحظات التاريخية وبمصير المدرسة والمجتمع معا، يضيع على الأجيال الحالية الفرص التاريخية، ويسرق من الأجيال القادمة حلمها في مدرسة الاستقرار والديموقراطية والتنمية والكرامة.

كثير من المحسوبين على جبهة النضال والفعالية السياسة والنقابية في المجتمع والريادة التربوية والإدارية يتقاضون أجورهم وتعويضاتهم كاملة نهاية كل شهر. يتمتعون بامتيازات يعرف محيطهم أنهم لا يستحقونها، ولا تتناسب وما ينجزونه من مهام. بعضهم هنا وبعضهم هناك. يتسترون بأقنعة وأغطية، تكليفات وتعيينات مضبوطة، ومسؤوليات على المقاس، وصفات ومهام حزبية تجعل مصلحة الحزب فوق المصلحة العامة. يتمتعون بالحماية التي يحتاجونها. شعارهم " إن لم تكن معي فأنا ضدك. وهم في واقع الحال، كالمعاول الهدامة التي تدق المسامير الصدئة في جذع شجرة المدرسة المغربية. لا يبتغون سوى مصالحهم الحزبية الضيقة وتحقيق طموحاتهم الشخصية. يسيرون في ظل ما تفرضه ثقافة التوازنات والمصالح المتبادلة. لا تطالهم يد المراقبة حتى لو حضرت عينها. ولا تصيبهم يد المحاسبة حتى لو حضرت أسبابها. فأي مدرسة نستطيع أن نقيم إذا لم تكن مدرسة في قلب مجتمعها، قوتها الكفاءة والمهنية، وعمادها الحكامة الرشيدة والريادة الناجعة، وسندها ربط المسؤولية بالمحاسبة؟

الفيديو

تابعونا على الفيس