د. لبنى شطاب
إن ضعف الدول و هشاشتها و دخولها في نزاعات داخلية و حالة من الفوضى، يجعلها محل جذب واستقطاب للطامعين، خصوصا إذا كانت غنية بالثروات و الموارد ومتميزة بموقعها الاستراتيجي، وعلى الأغلب سيؤدي تضارب مصالح الدول الطامعة إلى تأجيج الصراعات الداخلية وتعقيدها، فتنتقل من مستوى الصراع المحلي إلى مستويات اقليمية و دولية.
في عالمنا العربي تعد سوريا مثالا شاهدا على هذه الحقيقة، لكن مأساتها تتكرر في ليبيا، و للمفارقة بأهم اللاعبين كروسيا و تركيا و الولايات المتحدة الأمريكية، و أوروبا وغيرهم، وبتفاصيل مختلفة.
إن محاولات القوى الاقليمية والدولية تغيير ميزان القوة في ليبيا غذى الصراع و عقده بشكل كبير وجعل الحل العسكري هو الأكثر طرحا. و على الرغم من صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي عام 2011 يحظر التسليح في ليبيا، وإشراف الاتحاد الأوروبي حديثا على عملية “إيريني” لمراقبة تطبيق الحظر الأممي ، ومخرجات “مؤتمر برلين” الداعية لوقف التدخلات الخارجية، والمبادرات المختلفة للسلام، فإنها فشلت جميعا في إيقاف هذه التدخلات والانتهاكات.
أخذ الصراع في ليبيا منحا تصاعديا من حيث طبيعة و درجة التدخلات الخارجية، خاصة الروسية منها لصالح حفتر والتركية لصالح حكومة السراج، و لطالما كانت هذه التدخلات تحت مرأى و مسمع الولايات المتحدة الأمريكية ولكنها لم تنزعج منها أبدا، إلا أن خشيتها المستجدة مؤخرا كانت بسبب تزويد حفتر بسلاح نوعي متطور تمثل في 14 مقاتلة بين سوخوي و ميغ 29 نقلت من “قاعدة احميميم” السورية إلى “قاعدة الجفرة” الليبية حسب الصور التي التقطتها القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا “الافريكوم”، إضافة إلى عناصر فاغنر الروسية التي تقاتل مع حفتر، كما قال بيان الأفريكوم: “إن روسيا تسعى لتغيير موازين القوة في ليبيا لصالحها كما فعلت في سوريا”.
إن إمساك روسيا بخيوط اللعبة في ليبيا سيسمح لها بمزاحمة الولايات المتحدة في غرب المتوسط، لذلك لا نستبعد أن يكون التدخل التركي بهذه القوة والإصرار بضوء أمريكي أو حتى اتفاق بين البلدين، كما أن روسيا إن أقامت قاعدة عسكرية في الساحل الليبي، فإن خطوتها المنطقية المقبلة ستكون نشر صواريخ بعيدة المدى جنوب المتوسط توجهها نحو أوروربا و المنظومة الأطلسية بشكل عام.
نشرت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية مقالا للكاتب “ديفيد إغنيشوس” جاء فيه أنه من المرجح أن تنشأ قواعد عسكرية روسية على المتوسط فتحقق روسيا حلما دام لقرون، و أضاف أن روسيا تجمع قطع الوضع في الشرق الأوسط بعد كورونا ليس ضمن استراتيجية كبرى بقدر ما هو رغبة في إغاظة الولايات المتحدة.
إن طموحات روسيا في المتوسط لا تخفى على أحد و ظهرت بوضوح في سوريا، أما ليبيا فتمثل لها ثروة جيوستراتيجية من حيث احتياطيات الطاقة و النفط الهائلة و الموقع الاستراتيجي المتميز، إضافة إلى ارتباط البلدين تقليديا بعلاقات اقتصادية من خلال عقود التسليح و عقود نفطية واقتصادية تسعى روسيا للحفاظ عليها في ظل احتكارها من شركات غربية خاصة “التوتال” الفرنسية و “الإيني” الإيطالية،ولكن الأهم من ذلك بالنسبة لروسيا باعتقادنا هو تحقيق هدف جيواستراتيجي يتمثل في استخدام ليبيا كقاعدة أساسية لتوسيع النفوذ الروسي في أفريقيا وجنوب المتوسط بعيدا عن نطاقها الاقليمي القريب، بمعنى التوسع في مناطق نفوذ جديدة ومحسوبة تقليديا على أوروبا وأمريكا، و سيجعل منها ذلك شريكا في أي تسوية، و يدعم تموضعها في الساحة الدولية.
نتذكر جميعا أن روسيا لم تتدخل في الصراع السوري بوضوح إلا عام 2015 أي بعد مرور أربع سنوات على الصراع، وقد أقدمت على خطوة محفوفة بالمخاطر آنذاك بعد اختبارها للسلوك الأمريكي الذي أظهر نوعا من الانسحاب والانكفاء مخلفا فراغا مهما في سوريا، ملأته روسيا بكل قوة (الفراغ الامريكي ليس السبب الوحيد الذي ساعد على التدخل الروسي في سوريا).
لم يزد السلوك الأمريكي حيال الأزمة الليبية عن الدعوات للتمسك ببعض المبادئ العامة كالحوار والحل السياسي وكف التدخلات الخارجية، دون أن يستتبع ذلك بخطوات ميدانية مؤثرة أو طرح مبادرات وساطة كما فعل بعض اللاعبين الاقليميين والدوليين.
إن ما يصدر عن واشنطن بشأن الأطراف الليبية المتقاتلة وداعميهم عبارة عن رسائل مشوشة ومواقف غير متسقة في كثير من الأحيان بين البيت الابيض و البنتاغون، ما يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تملك استراتيجية واضحة لحل الأزمة الليبية ، وبأنها لا تقع في سلم أولوياتها.
اختارت إدارة الرئيس “دونالد ترامب” سياسة الانكفاء تحت شعار “أمريكا أولا” فسحبت جنودها من أفغانستان و حتى من ألمانيا بحوالي 9500 جندي التي تعد مركزا رئيسيا لتجمع القوات الأمريكية في دول الحلف الأطلسي، و فهم من ذلك أن واشنطن تتنصل من التزاماتها بالدفاع عن أوروبا في إطار الحلف الأطلسي، و كانت هدية غير متوقعة لروسيا، و هي رسائل قرأتها روسيا بشكل جيد واعتبرتها فرصة سانحة لها للتغول في ظل الانكفاء الأمريكي لترمي بثقلها في الأزمة الليبية، وربما قد يعني ذلك أن الولايات المتحدة ستكتفي بتحذير حلفائها الأوربيين من التدخل الروسي النوعي في ليبيا كما سبقت الإشارة إليه.
يبدو أن السياسة الأمريكية في ليبيا لن تتغير على المدى المنظور في ظل جائحة كورونا واقتراب موعد الانتخابات والتصعيد ضد الصين، رغم النزاع بين أعضاء الحلف الاطلسي حول الأزمة الليبية وخصوصا بين تركيا وفرنسا، لكن هذا الموقف الأمريكي باعتقادنا يمكن أن يتغير إذا حدثت تغيرات دراماتيكية تخل بميزان القوة في ليبيا بما يهدد المصالح الأمريكية المباشرة.
رغم الابتعاد الأمريكي عن التدخل المؤثر في الأزمة الليبية، فإنها تبقى ممسكة بخيوط اللعبة في اتجاه حل أو تصعيد إن أرادت، ولن يبقى أمامها إلا المنافس الروسي، إذ يمكنها الاعتماد على اللاعبينمن حلفائها أوروبا و مصر و الأمارات و تركيا، فهذه الدول جميعا تدور في فلكها، و ما سكوتها عن الوجود التركي دون اعتراض الا دليل على تغطية امريكية له، و هو حديث آخر يطول شرحه.
Ch.loubna33@gmail.com
إعلامية جزائرية و باحثة في العلوم السياسية.