كنت هممت بهذا الموضوع، منذ أن استوت المقامة الوزيرية، نازلة شمطاء تسعى بيننا، وتتناقل الألسن الفاضحة والمنافحة أسباب نزولها، ومناط الحكم فيها، ومفاهيم المخالفة – المزعومة - التي تُخرس كل من رام فهم البسيط والواضح، الذي أريد له، حزبيا، أن يَصَّعَد يوما بعد يوم صوب المتشابك المعقد.
هممت به لخطورته على دولة تتجه صوب إرساء الديمقراطية، وترسيخ قيم الحداثة، وتقوية المؤسسات؛ دولة تستحم صباح مساء في بحار الديمقراطيات المحيطة بها، شمالا وغربا.
كيف؟ وزير/وزيران في الحكومة يرتكب كبيرة في حق مؤسسة رسمية للدولة– الضمان الاجتماعي – قائمة على الظهائر والقوانين المؤسسة والمؤطرة لعلاقات كل الفرقاء، في مجال الشغل؟.
ولعل نعت عدم اعتراف وزير، ممارس، بمؤسسات الدولة بمجرد "كبيرة"، ذات الحمولة الشرعية، فيه كثير من التسامح؛ وإلا فهو الخيانة، لأن مؤسسات الدولة مترابطة في ما بينها، وهدم دعامة واحدة في معمارها الإداري – والهادم وزير - يهدمها كلها؛ إذ هي كالنفس، في قتلها ظلما قتل للناس جميعا.
لكني، وقد هممت، اخترت التريث لأن حزب الوزير أبدى جدية في التعامل مع النازلة بعرضها على "محكمته الخاصة" لتنظر في أمر "ذي الوزارتين"، أو قل في المِرود الحزبي، هل به كُحلٌ أم لا؟.
قلت بيني وبين نفسي: إن الخطأ بشري، والمؤمن خطاء، خصوصا إذا ثقلت موازين أشغاله وأعماله واهتماماته؛ ولا شك في حكمة عقلاء الحزب، خصوصا وهو حزب الصدارة اليوم، والمتشبث بها مستقبلا، كما يعد؛ فما هي إلا ساعة وتنكشف الزلة أو الكبيرة أو الخيانة؛ كما تشاؤون.
ولن يعدم حزب العدالة والتنمية محللين يقفون – وهم يُشرِّحون الشرائح- على هول خسارة ثقة ناخبيهم والمواطنين عموما، وهول الإساءة إلى دولة المؤسسات؛ خصوصا ورهان المغرب الكبير على إنعاش مناخ الاستثمار الداخلي والخارجي.
وسينطقها مدوية؛ يدا يمنى تقطع اليسرى في نفس الجسد:
لا يستقيم، سياسيا وأخلاقيا، أن تتواصل وزارتك الثانية هذه، ومن باب أولى الثالثة التي تتربص بها.
لكن ما حصل مخيب لكل الآمال؛ ليس آمالي على كل حال، لأن موقفي واضح منذ البداية:
لا حق لأحد في الريع الديني، يدعيه خالصا له من دون الأحزاب الأخرى؛ ولا يمكن انتظار النزاهة والمصداقية من حكومة تستثمر في هذا الريع المَنشول نشلا، في السياق التاريخي المعروف، وتلوي عنقه صوب وجهة واحدة: الكراسي، أنى بدت وأنى سادت؛ وأنى أذَّنت.
إنها آمال من وثقوا في الحزب؛ المليون الذي صوت له، وترجى قيما مضافة في الحياة السياسية المغربية؛ حيث عجز عن الإتيان بها حتى اليسار ويمينه ويساره.
هاهي ذي النتائج تأتيكم باذخة، يوما بعد يوم.. وهاهو وزير /وزيران لا يرى رأي المؤمنين بالدولة المدنية ومؤسساتها؛ حتى وهو في عيرها ونفيرها؛ حتى وهو يُقسم أمام المؤسسة الملكية على أن يكون وزيرا للدنيا وليس للآخرة.
كنت أثرت سابقا ديباجة القانون الداخلي لحزب العدالة والتنمية، وما بها من تقديم الأمة على الدولة؛ من قبيل الإخواني المصري الذي قال: "طز في مصر". عينه /عيونهم على الخلافة؛ ولنا أن نتلهى بالتنظير للمؤسسات المدنية والحداثة، ونظم قصائد الوطنية.
"طز في صندوق الضمان الاجتماعي". وإن لم يقلها فهو في حكم القائل.
وكل الصناديق التي لا تفضي إلى بيت مال المسلمين، الذي لا تطرح في عتباته أسئلة الكم والكيف.
"زه فأعطاه ألف دينار"..وأعطاه وزنَه ذهبا، وأكمل بقطع رأسه لتخف موازينه؛ وما شئتم من ضروب التمكين للاستبداد وقهر العباد.
لا أحد يزايد على الأستاذ الرميد في القانون وهو المحامي؛ ولا أحد يراه في ضوائق مالية، جعلته يرجئ التصريح بالمرحومة كاتبته، صيانة لحقوقها كلها؛ خارج إطار الصدقة والإحسان، مهما كانت المبالغ.
بل حتى الذين انبروا للدفاع عنه، قبل أن يُمَأسِس حزبُه هذا الدفاع، ويعتبر كل الخائضين في النازلة مجرد مشوشين مغرضين، ما انفكوا يدلون بأياديه البيضاء على كاتبته، في عافيتها ومرضها؛ فهنيئا له إنسانيا على كل حال.
إلا موضع لبنة، على حد التعبير النبوي؛ لبنة الإيمان بمؤسسات الدولة المدنية.
في هذه يكشف السيد الوزير على عمق ولائه للأمة وليس للوطن؛ وعلى كونه يشتغل ضمن سُلَّمها القيمي.
لم أصرح بها لدى مؤسسات الاختصاص، لكني ما قصَّرت في حقها كأجيرة، تستحق أجرها وزيادة، قبل أن يجف عرقها.
تصوروا معي أن يقلد كل رجال الأعمال هذا الدرس الوزيري، فيحسنون ويتصدقون، خارج المؤسسات الرسمية؛ ولو بأكثر مما يتطلبه التصريح بمشغليهم.
ماذا يبقى من الدولة المدنية –بكل مؤسساتها- بعد عشر سنوات مثلا؟.
يذكرنا هذا بالحمايات الأجنبية في مغرب مستهل القرن العشرين..توزعتها السفارات الأجنبية، بطلب من الأعيان والأثرياء المغاربة، حتى غدا المخزن غير صالح إلا للانهيار وطلب الحماية، وقد حصل.
فإذا كان قصير قد جدع أنفه ليُمَكن سيده عمرَو بنَ عدي من الثأر لخاله الملك جذيمة بن الأبرش، بقتل الزباء قاتلته؛ فإن السيد الوزير – مرتين- يصدر عن أنف شامخ، غير مجدوع، معتزٍّ أُنُفٍ، كأنف الناقة؛ خصوصا بعد تزكية محكمة الحزب؛ واختيارها نصرة الأخ ظالما أو مظلوما.
وهل تُتصور من الحزب لحظة مفاضلة بين حقوق كاتبة راحلة، وقِيم مشروع الأمة الإخوانية؟.
وهل في حزب العدالة عادل يُقوٍّم الوزير- أو الأخ- بقوانين الدولة المدنية، وليس أحلام الخلافة؟.
ما أكثر ما يتم الخلط، على مستوى أطر الدولة، من حزب العدالة والتنمية، ومنهم الوزراء، كما في النازلة، بين القناعات الشخصية العقدية، وقوانين وضوابط اشتغال الدولة المدنية، التي يفترض فيها التسامي على النوازع الفردية.
وكمثال سريع على هذا الخلط: "عفا الله عما سلف" الشهيرة، التي انتظمت فيها، لاحقا، أشكال وألوان من التراخي والتهاون الدولتي الإخواني.
وكمثال أيضا ما يواجَه به كل نقد، برلماني وغير برلماني؛ سواء لسبل تدبير الحزب للحكومة، أو لكشف زلات بعض أطره؛ لا ينتصب أحدٌ منهم مدافعا ومفندا، إلا ليصقل، في النهاية، واسطة العقد التي غدت لازمة مملة:
إن هدفكم التشويش على الحزب بالبهتان. وحينما تكون الأدلة صارخة يتم السعي إلى تكميمها، إخوانيا، بشتى السبل، وحتى الفتاوى.
يقوم هذا دليلا على أن أطر الحزب، حتى وهم في مستويات عليا من تدبير أمور الدولة، لا ينسون التزامهم- الاحترافي - لقواعدهم الانتخابية، التي انتصرت لهم، بناء على دفع عاطفي ديني مشحون، يعرفون كيف ينظمون معلقاته، في كل المناسبات الدينية، بما فيها الجنائز.
إن نقاش الدولة المدنية غير وارد، لا في حملاتهم الانتخابية، ولا في تأطيراتهم الحزبية؛ وهم يدركون ألا أخطر سياسيا عليهم من الخوض في مثل هذا النقاش. إن دغدغة العواطف، عندهم، أولى من صرامة المنطق، وسلطان العقل.
ولعل قراءة الفاتحة في اللقاءات، والإجهاش ببعض الأدعية – كما توظف سياسيا - عند الشريحة العريضة من قواعد الحزب الأمية، أفضل من أي برنامج انتخابي؛ يكفي أن يكون له هذا العنوان ليتهم بالعلمانية؛ فما أدراك بالخوض في إرساء الديمقراطية، وسبل تنزيل الدستور.
ألم يتملص رئيس الحكومة السابق من كل هذا جهارا، معتبرا إياه اختصاصا ملكيا، لا رأي له فيه؟.
داخل هذا الإطار العام يمكن موضعة ثلاثية الكاتبة والوزير والضمان الاجتماعي، لتفهم فهما سياسيا، وليس حقوقيا فقط.
لو لم تكن بكل هذا الثقل السياسي لما دخل الحزب على الخط لينصر وزيرا في مواجهة مؤسسة اجتماعية رسمية.
لو كانت حقوقية فقط لاعتذر الوزير/الوزيران للوطن والمواطنين، بتلقائية وسلاسة، وقدم استقالته مرفوع الرأس؛ لكنه اختار المواجهة والتحدي، ومعه كل الحزب بقضه وقضيضه.
محك حقيقي، بل ورطة، للحكومة، ولدولة المؤسسات التي ترقى عليها.
والنازلة، في مستواها الأدنى، درس لكل مشغل، يصبو إلى مناخ سليم للأعمال؛ لكنه، في نفس الوقت يقوض – بتحلله من التزاماته المالية- المؤسسات الرسمية الكفيلة بتحقيقه.
ولنا كل الأمل –رغم عثرات الجائحة- في النموذج التنموي الجديد، الذي تشتغل عليه لجنة كفاءات وطنية، لن تغيب عنها وضعية الكثير من المؤسسات الاقتصادية والإدارية للدولة، التي لم تحصن ضد كل أساليب التحايل والتملص التي يجتهد فيها النافذون وغير النافذين، من جميع الشرائح الاجتماعية والأحزاب.
حتى لا يكون الوزير وحده الشجرة التي تخفي الغابة.