رغم نسبة الأمية المرتفعة ووضعية الهشاشة المتفشية لدى شرائح وفئات عديدة في المجتمع المغربي، فإن كل فرد فيه يستحق منا كل التقدير والاحترام...
رغم بعض المناوشات المدفوعة غالبا بالأجندات الأجنبية التي تزامنت مع الأيام الأولى للحجر الصحي أو بعض السلوكيات الجانبية والمعزولة من مواطنين/ات رفضوا/ن الإجراءات الوقائية لأسباب اجتماعية أو نفسية أو اقتصادية، فإن أغلب المغاربة انضبطوا/ن للحجر الصحي. نعم، يجب أن نُقر بذلك ونُصفق بأننا كنا قادرين/ات على تحقيق من لم تستطع شعوب أخرى تحقيقه خلال فترة الحجر الصحي. عانت دول عديدة من عدم انضباط مواطنيها ومواطناتها لتعليمات وتوجيهات رؤسائها ومسؤوليها.
نعم، يستحق الشعب المغربي منا كل التقدير والاحترام.
إن كان لا بد من وضع مقارنة مع دول أخرى. ففي هذه الحالة، لا يجب مقارنة شعب المغرب بشعوب أوروبا أو بشعب أمريكا، بل علينا أن نقارن بينه وبين شعوب الدول الإفريقية أو الدول التي يتقاسم معها –تقريبا- نفس الوضعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إن إجراء مثل هذه المقارنة ستمكن لا محالة من استجلاء خلاصة مهمة أن هناك فرق كبير سيكون إيجابيا لصالح المغرب خاصة على مستوى التعامل والتعاطي مع الحدث الاستثنائي الذي لا زال يهدد الأمن الصحي في العالم. ألا يستحق كل فرد في المجتمع رسالة شكر وامتنان للمجهود الجبار الذي قام به طيلة الحجر الصحي؟ ألا يستحق هذا العمل المواطن وقفة تأمل على ما يمكن أن يقوم به الفرد المغربي لخدمة بلده؟ بيد أنه، لا يجب أن يفهم انضباط شعب المغرب على أنها فرصة لخنق الحريات وتمرير قوانين تقلص من كمية الأوكسجين الديموقراطي التي ناضل شرفاء/شريفات الوطن والحرية لتحقيقها. كما أنه، لا يجب أن تفهم أنها فرصة لتعليق كل الاخفاقات السياسية للحكومة وتبرير العجز الحاصل لإخراج المغرب من أزمته. أو الأمرُّ من ذلك، لا يجب أن تكون فرصة للتملص من المسؤولية والافلات من العقاب عن أخطاء قاتلة في حق الوطن والشعب وأولها عدم تطبيق قوانين اجتماعية تحمي حقوق الشغيلة.
أكد كوفيد 19 أن لكل مجتمع وعيه وثقافته. لا يجب أن ننظر إلى السلوكيات والمظاهر المجتمعية الجزئية التي تناثرت هنا أو هناك داخل المغرب ، بل يجب التمعن وتحليل المعطيات في شموليتها؛ آنذاك سيتضح للمراقب والمتتبع للشأن المغربي أن الشعب واع بطريقته ومستعد للانخراط التام للحفاظ على أمن وسلامة وطنه وكل فرد فيه. لا يمكن الاستهانة من هذا المعطى الذي لا تستطيع دول عديدة الحصول عليه لأن تكوينه يتطلب أزمنة وتَداخل ثقافات متعددة لتكوينه ولتشكيله، لتمنحنا المواطن(ة) المغربي الذي نجح في كسر عاداته وسلوكياته اليومية. بل الأكثر من هذا حملات تضامن عديدة منها ما هو معلن ومنها ما هو غير معلن انطلقت في كل مكان؛ بدئا بالتضامن فيما بين العائلات إلى تضامن فيما بين الجيران إلى تضامن في الدوار وإلى تضامن وطني. تبين أن هناك أمل بداخل المواطن(ة) المغربي -رغم سوء الأحوال وضعف المردودية السياسية والاقتصادية- يجعل ينتظر متفائلا حصوله على ما يستحق من عدالة اجتماعية وأمن وسلام اجتماعي واقتصادي وصحي.
الاهتمام الماكرو-الاجتماعي والاقتصادي والتوازنات الاقتصادية ليس كافيا لتحقيق الأمن الصحي والأمن الاجتماعي والاقتصادي. بَيد أن التدبير الميكرو-الاجتماعي والاقتصادي هو السبيل لذلك. لقد اتضح أن البنية الاجتماعية المغربية لازالت تتسم بالثقة في المؤسسات وهو ليس بالأمر الهَيّن لأن دول عديدة تقف عاجزة أمام انعدامها. بالإضافة إلى تحليه (أي الشعب المغربي) بالمسؤولية رغم محاولات عديدة من مسؤولين/ات "يجتهدون/ن" من أجل تفشي الرداءة وعدم المسؤولية، ففي كل مرة فضيحة "مقصودة" لإطفاء شعلة الأمل التي لا زالت موجودة بداخل المواطن(ة) المغربي(ة).
خلال الحجر الصحي، وجه المغاربة رسالة واضحة بأنهم شعب يستحق كل التقدير والاحترام. أليس هذه الرسالة موجهة لكل مسؤول بأن المواطن(ة) مستعد أن يضحي بقوته اليومي إذا التمس بأن المخططات الاستراتيجية للتنمية هي موجهة من أجل تحقيق سلامته وأمنه الاجتماعي والصحي والاقتصادي؟ ألا يمكن تغيير الأولويات الوطنية والتعامل مع كل فرد في المجتمع كمواطن يستحق رعاية خاصة به؟
بالمقابل، اتضح بأن هناك عدة قطاعات لا تخدم المصالح الوطنية ومن بينها التعليم الخصوصي الذي أبان عن انعدام روح المسؤولية والوطنية لديه. إن استمرار الرهان عليه لا يمكن إلا أن يعمق التفاوت الاجتماعي والمجالي؛ مما سيعيق أي مشروع تنموي للمغرب. البديل الحقيقي هو التعليم العمومي مع تغييرات بنيوية في تدبيره وأهدافه. أما المحاولة لتلميع صورة التعليم عن بعد والغُلو في دوره لإنقاذ التعليم، ما هي إلا محاولة لجعل طرف وحيد الرابح وهو القطاع الخاص والاقتصاد الرقمي الذي يتحكم فيه الصين وأمريكا.
إن الاستمرار في التقليد وفرض انتقالات اقتصادية غير ملائمة للبنية الاجتماعية والاقتصادية للمغرب سيزيد من تعقيد التحولات البنيوية ومن تعميق فجوة التطور بين المغرب والبلدان المتقدمة. إن التجارب السابقة مليئة بالدروس والعبر حتى لا يكرر المغرب نفس الأخطاء. فالمسار الحقيقي للبناء يجب أن يستجيب أساسا للإكراهات والامكانات الداخلية وليس لإرادة ذاتية أو لتطور طبيعي لمسار بلد أو جهة أخرى. أكيد أن مواكبة التطورات التكنولوجية هي ضرورة مرحلية تستدعي الانخراط السريع في الركب؛ إلا أن هذه العملية ليس لها علاقة بالمعادلات الرياضية حتى تكون لها نفس النتيجة العلمية بغض النظر عن من قام بها؛ بل إنها (أي عملية المواكبة) ستختلف نتائجها حسب البلدان وداخل البلد الواحد. بمعنى آخر، يجب إعادة منظورنا للتطور بربطه بالرفاه الفردي والمجتمعي وتحقيق التوازن بين الإنسان والبيئة. هذا التوازن يعتبر الهدف الأسمى الذي يجب السعي لتحقيقه. عندما تتهدد صحة الإنسان جراء العطش أو الجوع أو الجفاف أو تفشي الأمراض، هل يمكن للتوقعات المستقبلية عن الرقمنة أن تحقق نتائجها الإيجابية؟ لا أظن ذلك.
حيرت انطلاقة الصين العالم. فاختلف المفكرون/ات والمحللون/ات حول أسبابها. بيد أن معظمهم أقر أن الصين اعتمدت أساسا على مواردها الخاصة في التعليم والبحث العلمي قبل أن تنطلق للعالم وتكتسح كل المجالات الاقتصادية وهي الآن في طريقها لاكتساح المجال الثقافي واللغوي. هذا المثال ليس لتقليد النموذج الصيني أو غيره، ولكن فقط لنثق في إمكاناتنا وقدراتنا الداخلية والتي أُبرزت جليا أثناء الحجر الصحي. أليس بإمكان المغرب أن يقوم بتصنيع مواد عديدة يستوردها من الخارج وبالتالي حل مشكلة البطالة؟ ألا يمكن أن نشجع البحث العلمي لخلق اقتصاد رقمي وطني بدل استيراده من الخارج؟ أليس التعليم عن بعد يحتاج إلى بنية أساسية وموارد بشرية لإنجاحه؟ فالنظام التعليمي بالمغرب يحتاج إلى تغيير هيكلي جذري ليستجيب –بالإضافة إلى أدواره الكلاسيكية- إلى هدفين رئيسيين الهدف الأول تنموي والهدف الثاني مجتمعي. فالتعليم ليس حروف وأرقام تلقن للمُتعلم (بضم الميم)، بل هو أمن وسلام للوطن ولكوكب الأرض. إنه المرآة المستقبلية للمجتمع.
وأخيرا، يبقى الاهتمام بالصحة والتعليم أعظم وأصدق رسائل شكر يمكن توجيهها للشعب المغربي، ألا يستحق منا شعب المغرب كل التقدير والاحترام؟...
*أستاذة باحثة في الاقتصاد ورئيسة مركز ديهيا لحقوق الإنسان والديموقراطية والتنمية