نادية عصام حرحش
بين تكميم الأصوات وحرق السيارات… العجز هو سيد الموقف تبدو كلمة عجز معبّرة عن الحال. عدْلٌ للمصطلحات على الرغم من غيابه عن السيد والعبد في هذا الموقف.
حياتنا كأسياد وعبيد.
هم الأسياد ونحن العبيد.
هم أصحاب السلطة المتنفِّذين المسيطِرين المتحكِّمين الغاشمين.
ونحن مجرد أتباع مسخَّرين لهم ومِن أجلِهم يُضحّون بنا، يستعبدونا، يُسخِّرونا لمصالحهم ويحرِقونا ان شاءوا، ويشعلونا حطباً لدفئهم بعدما ينتهوا من منافعنا..
وعلينا القبول والتقبل.
السكوت والخرس.
الخنوع والانحناء.
الخوف والرعب والرهب والفزع.
منذ بدأت الكتابة وأنا أعرف أنني في كل مرة، ومع كل مقال كنت أدقّ مضجع أحدهم بينما أقرع على خزّان الحرّية. فكنت ولا أزال وسأكون دوماً مؤمنة أنّ تحرّرنا يأتي من حرّيتنا، وحريّتنا تتطلّب منّا التّمتّع بقدرٍ من الوعي والمعرفة والإيمان والتفاني من أجل ما نؤمن به. لأنّ الأوطان الحرّة تُبنى من مجتمعاتٍ سلاحها أخلاقها وقِيَمها وقُدْرتها على التعبير والدفاع عمّا هو لها وتعرف كيف تميّز ما عليها.
على مدار السنوات كتبْتُ بلا خوف. وفي كلّ مرّة خفْتُ كتبْت بها أكثر. وفي كل مرة خفْتُ اكثر كتبْتُ أكثر. آمنْتُ أنَّ الكتابةَ تحْمي وتُحصِّن. كما آمنْتُ أنَّ الإنسانَ الحرّ لا يخاف. وسعيي للحرّية بقي ويبقى بالتحرّر من الخوف الذي يُكبِّل. ولا حرية لمُكبَّل.
مشوارٌ ليس بالسهل ولن يكون، ولا يمكن له أنْ يكون. فالحرية ثمنها غالي، والدفاع عنها عمل مستدام.
ولكن… هل يستحقّ الدفاع عن الحرية أن نموت لأجلها؟
وهل تستحقُّ الحياة بخوفٍ ورعب وترهيب العيش؟
قبل يوم تعرضت لِما كنتُ ربّما أتوقّع حدوثه في يومٍ ما. فأعرف أنّي مع كلّ كلمة أخطّها، وفي كلّ مقال أكتبه، كالماشي على الجمر. فلستُ من هواة اللعب بالنار، ولكنّي لا أعبأ بلهيب أعرف كيف اتجنّب الاحتراق منه. فعَيْشنا يتطلّب منّا اجتياز المخاطر إذا ما أردناه عيشاً بكرامة.
فأنا كبرت كفلسطينية رافقَتْها كلمة حرّية منذ خطت قدمايَ الأرض. والتحرّر يُشكِّل لديَّ مبْتغى منذ بدأ وجداني التعطش للشغف نحو الحياة. فكيف أعيش من أجل تحرّر من سلطات احتلال، بينما لا حرّية ممنوحة لأفراد الشعب من قبل قيادته للتعبير ولا للتغيير ولا لدرء الفساد عندما يرونه ويعيشونه ويصبح مُلازِما لبديهياّت حياتهم.
على الرغم من إصراري دائماً، بأنّه مهما استاء البعض من كلماتي، ومهما أزعجت مواضيعي سبات من يأمنون أماكنهم ومناصبهم، ومهما اختلف معي البعض في الرأي والموقف. ومهما كان هناك تباعد في وجهات النظر، علينا دائماً أن نحافظ ونتمسك بذاك الخط ّ الآمن من المساحة فيما بيننا باختلافاتنا بالتقبل والاحترام. لأنه لا يجب أن يفسد الاختلاف أبداً قضيّة. خصوصاً عندما نكون أصحاب قضيّة واحدة تتطلّب تقبّلنا واحترامنا لبعضنا الآخر.
تمّ إضرام النار في سيّارتي، وبدا الفعل بين تمرّسٍ واضحٍ للفاعلِ وبين لهيب النار التي انتشرت لتأكل الحديد في لحظات، وكأنّه الحقيقة الوحيدة الموجودة في هذا الواقع.
إرهاب للنفوس وإحراق لكل ما يمكن أن تطاله أيديهم.
أفكّر بالإرهاب الذي صار وطناً لنا. بين فعل وردّ فعل. هناك من يُرْهِب وهناك من يُرَهَّب.
أحاول استبعاد ما جرى عن ذاكرتي. أودّ حرق تلك اللحظات وأَكْنِسُ رمادها وأرميه بعيداً عنّي. ولكنّي أشعر بعجزي، كما أشعر بعجزهم. أولئك الضعفاء الجبناء المتربّصين بعيداً مُحْتَمين بنفوذهم، وسطوتهم وسلاحهم وزجاجاتهم الحارقة.
أعيد تكرار السؤال على نفسي: هل تكميم الأفواه سيحمينا من إرهابهم؟
هل سكوتنا وانحناؤنا وغضّنا للبصر وإعماء بصيرتنا سيحمينا من تنفّذهم وسطوتهم وبطشهم؟
لو كان في السكوت حلّ لكنت أوّل الساكتين.
ولكن كما أمْن حياتي وحفاظي عليها مرهون كذلك بحياة من هم مقرّبون منّي. وعليه يجب أن أكون حريصة وخائفة ومرتعبة. كذلك أمْنهم وحياتهم الكريمة الحرة هي واجب عليّ. فإذا ما سكتنا كلّنا خوفاً ورعبا من أذيّتهم، لن يبقى لنا مكان للعيش حتى بذلٍّ وانصياع، لأنّهم سيستمرّون بالاستباحة.
الحرّية تبدأ وتنتهي بالمقدرة على التعبير.
نعم… الفساد مستفحل وأيادي البطش طويلة وممتدة. ولكن من يريد أنْ يتعفّن بالفساد هذا شأنه.
ولأنّ الله أنعم عليّ بحاسّة شمّ قويّة للغاية لا أستطيع التأقلم مع العفن.
الحقّ هو القوة. وقوّة البطش والترهيب مهما طالت هي باطلة.
وهذه الأرض كانت منذ أنْ سوّاها الله أرض حق…. وانا ابنتها.
كاتبة فلسطينية