إلى عهد قريب كانت الدولة، وبين الفينة والأخرى، تلوح بشعار "خوصصة التعليم"، "وسحب مجانيته" بعد أن لاحظت الفشل الذريع الذي واكب مسلسل إصلاحاته والأعباء المالية التي كانت تتكبدها الخزينة العامة، فقد رصدت لهذا القطاع ميزانية 72 مليار و424 درهما برسم السنة المالية 2019-2020، أي ما يشكل نسبة مئوية هامة في الميزانية العامة، بيد أن الدولة ستلجأ إلى أسلوب المناورة بعد أن أرهقها الحوار الأخرس والمضني مع الأطراف الفاعلة في الميدان، من مهنيين ونقابيين وجمعويين، للقبول بسياسة الخوصصة وسحب المجانية من قطاعي التعليم والصحة.
وفي ظل سياسة اعتقال "المعلومة" والتعتيم على مصادر الأخبار وما يجري في كواليس الحكومة تجاه هذين القطاعين (التعليم والصحة) ورافديهما العمومي والخاص، ظلت، وحتى الآن، عقلية المخزن تعتقد أن التحكم في القطاعين ليس هو بالضرورة تدبير سياسته وترشيد نفقاته بقدر ما كان يهدف، في المقام الأول، إلى لعب دور طرف آخر كتاجر "بالمفهوم المالي الانتفاعي الضيق" الذي يرجح ملفا على ملف ـ دائما في القطاعين العمومي والخاص ـ بانتقائية بشعة قائمة على صك "من يدفع أكثر"، بغض الطرف عن المؤهلات والحكامة في الفصل بين الفرقاء في القطاعين والارتقاء إلى النزاهة في خدمة المواطن وتبصيره بمستوى الجودة من عدمها، كما تنص عليه المذكرات التشريعية التي تماثل نجوم السماء في عددها وتراكماتها.
بيد أنه، ورغم هذا التعتيم المضروب على الفعل الحكومي، يأبى الواقع والأحداث بصورة خاصة إلا أن تفضح هذه السياسة الانتقائية وتكشف مساحة الضرر والحيف التي يتخندق داخلها المواطن المغربي، في احتكاكه اليومي بهذين القطاعين.
التعليم وترجيح أطروحة الخصوصي
يعلم الرأي العام الوطني أن قطاع التعليم الخصوصي شهد طفرة نوعية وهيمنة غير مسبوقة على الساحة، بعد أن لجأ أربابه وممولوه وحماته (وكلهم يحتلون مراكز حكومية حساسة، منهم البيجيديون في وزارات عديدة) إلى إطلاق حملة "حماية القطاع الخصوصي" من أي تبعات اقتصادية أو سياسية مالية، فمعظم مؤسساته تشتغل بسياسة ومناهج تربوية لا دخل للوزارة الوصية بشأنها، تنتقي المناهج وتفرض الرسوم وتبرمج الاختبارات وتقرر النتائج... وفق هواها وتماشيا مع منطق الربح الذي يخوله لها قانون الاستثمار، وحتى الرقيب أو ما يدعى "بالتأطير والمراقبة التربوية" يتم تعيينه تبعا لإرادتها وبشروطها الخاصة.
ولا يمكن، في عجالة، تشريح هذا القطاع لمعرفة السياسة التي تحكمه وتدير شؤونه وكذا نتائجه ومخرجاتها، وأثر ذلك كله على الأطر المغربية ومؤهلاتها، فقط سنكتفي بتقريب القارئ إلى هذا القطاع من خلال هذه المؤشرات:
- التعليم العمومي، ولأسباب عديدة، وقع التآمر عليه ليلفظ أنفاسه أمام غريمه التقليدي التعليم الخصوصي.
- تملص العدد الأكبر من مؤسسات التعليم الخصوصي من أداء ما تجمع بذمتها من استحقاقات ضريبية تصل عشرات المليارات.
- اختلالات في ضبط ملف التأمينات الصحية، تكشف عنها أعداد المسجلين من التلاميذ والعدد المصرح به.
- التعليم الخصوصي يعتبر قطاعا استثماريا ربحيا، يتعارض مطلقا مع الجانب التربوي.
- رسومات التعليم الخصوصي تخضع لحرية "الأسعار والمنافسة" وفيها إجحاف وضرب للقدرات المالية المحدودة التي تنتمي إليها جل الأسر المغربية.
- ليس هناك دورات تكوينية لفائدة العاملين بالقطاع، علاوة على أن معظمهم طالبات قدمن من التعليم الثانوي أو مستوى البكالوريا.
- ليس هناك قانون للضمان الاجتماعي يحمي هؤلاء العاملين بهذه المؤسسات، والحال أن معظمهم لا يتجاوز مرتبه 2500 درهـم شهريا.
- ليس هناك تعليم بهذه المؤسسات، بل هناك ترويض التلاميذ على أداء بعض المواد الدراسية، والتركيز على برامج المراقبة والاختبارات الانتقالية.
- لا وجود لجمعيات آباء وأولياء التلاميذ تابعة لهذه المؤسسات، وحتى أدوارها غير مفعلة.
- المراقبة الصحية الدورية لهذه المؤسسات بالكاد غير موجودة، وتتحجج إداراتها بأنها من مهام الأكاديميات الجهوية للتعليم.
- معظم نتائج هذه المؤسسات تخضع للنفخ Gonfler لتصل النسبة العامة للنجاح 100%.
أخطر من هذا والتعليم الجامعي الخصوصي!
- عدد مؤسسات التعليم العالي (جامعات ومعاهد عليا) التابعة للقطاع الخاص 229، بينما العدد التابع للقطاع العام 192.
- عدد مؤسسات التكوين المهني (قطاع خاص) 581، مقابل 239 (قطاع عام).
- عدد مؤسسات التعليم الأولي 20511 (قطاع خاص)، مقابل 7667 (قطاع عام في التعليم الأولي والتعليم الابتدائي).
- عدد مؤسسات التعليم الثانوي الإعدادي العمومي 1927، مقابل 654 في الخصوصي.
استنتاجات
نلاحظ من خلال الأرقام أعلاه أن التعليم الخصوصي زاحف وكاسح للميدان، وتظل في سياقه "المجانية" مجرد شعار انقضى زمنه، وبات على الأسر المغربية تبني والرضوخ للقطاع الخصوصي مهما ضعفت قدراتها المالية، أي تبني التعليم بالمقابل وسحب المجانية.
كما أن الحكومة تقف حامية لهذا القطاع بغض الطرف عن مستواه ومستلزماته وتكلفته، ولاحظ الرأي العام الوطني باندهاش كبير تغول هذه المؤسسات في ظل الحجر الصحي وباتت تنادي الأسر بتحصيل مستحقاتها من الرسوم الشهرية، غير عابئة بالظرفية الاقتصادية الحرجة التي تجتازها في محنتها مع فيروس كورونا.
القطـــــــــاع الصـــــــــحي
لجأت وزارة الصحة مؤخرا إلى إغلاق بوابة التخصص أمام طلبة كلية الطب، مؤملة أن تدفع بالقطاع العمومي إلى التقاط أنفاسه وتحريك خدماته، لكن في المقابل فتحت أبواب التوظيف أمام القطاع الخصوصي في الطب العام لفتح العيادات والمراكز الاستشفائية، جلهم وردوا من كليات الطب الخاصة، ليغرقوا بذلك الميدان ويضيقوا الخناق على الأطباء خريجي كليات الطب العام الذين يواجهون مأساة أخرى تتجسد في اكتساح أطباء القطاع الخصوصي للمجالات الاستشفائية، فضلا عن صعوبات مالية لفتح العيادات.
كما أن هناك كليات الطب الخاصة التي وضعت تسهيلات جد مغرية أمام تسجيل الطلبة، ولو بميزة "مقبول" في البكالوريا، القادرين على دفع رسوم التسجيل المقدرة بـ 13 مليون سنتيم في السنة، خلافا للمذكرة الوزارية التي تشترط معدلا لا يقل عن 14,40، مع احتساب نقط الامتحان الوطني بـ %75 والامتحان الجهوي بـ %25.
استنتاجات عامة
- توافق الفرص منعدم بين القطاعين، والفرص دوما مرجحة لفائدة القطاع الخصوصي، في التعليم أو الصحة.
- التوظيف مفتوح بامتيازات لصالح الطلبة خريجي المعاهد الخاصة، احتكاما للكوطا أو المعدلات المحصل عليها.
- رسوب معظم الطلبة خريجي القطاع العام، ولقاؤهم المصير المجهول.
- هناك إجراءات تنظيمية تتمسك بها الوزارة الوصية تمنح هامشا لترجيح التأهيل المهني والولوج إلى الوظائف العمومية فقط لصالح القطاع الخاص.
- مخرجات التعليم الخصوصي في مجملها لا تتوافق مطلقا مع معايير الولوج إلى سوق الشغل، فأطرها يعانون من خلل في تدبير الملفات وسوء الجودة في أداء الخدمات.
- ديبلومات وشواهد (المغرب عموما) غير معترف بها لدى سوق الشغل في العديد من دول العالم.
- أكدت مجموعة من النقابات التعليمية ذات الصيت الدولي أن "الدولة المغربية مسؤولة عن ضمان حق التعليم وعدم المتاجرة به"، لافتة الانتباه إلى أنها تكرس لخلق مجتمع غير متوازن من خلال قطاعين متباعدين في التكوين (قطاع عمومي وقطاع خصوصي).