يرى سقراط "أن الذات عبارة عن خليط من قدرات الإنسان وملكاته الشخصية، وأنها ترتبط بقدرته على التحليل وبناء المنطق؛ فالذات هي الوعي والإدراك الحسي الذي يتكون من البحث عن الأسباب الأولى لوجود الأشياء. وبهذا، فإن الذات تتحقق بالإرادة والوعي".
يقدم لنا المفكر الاجتماعي آلان تورين (َA.Touraine) في كتابه "براديغما جديدة لفهم عالم اليوم"، في فصله الثاني، مقاربة مهمة تنتقل من المجتمعات والحركات الاجتماعية، والتي هي في طريق الزوال، إلى مجال الذات الفاعلة داخل الحركات الثقافية في عالم اليوم، عالم الطفرة التكنولوجية والعولمة الضاربة في التغلغل والتسلط والتي فشلت في منح كل فرد إمكانا أن يكون فاعلا جيدا ومحصنا في حياته (إبراهيم غرايبة، من المجتمعات إلى الذات الفاعلة، مؤمنون بلا حدود، مايو2018)؛ فالعولمة المغايرة، في نظر الكثيرين، ليست ضد الانفتاح العالمي للتبادلات والإنتاج بل تكافح من أجل عولمة أخرى لا تسحق الضعفاء والأقليات والبيئة لمصلحة أصحاب السلطة والنفوذ (آلان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة جورج سليمان، مراجعة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى 2011).
قد يلتبس الأمر إن كانت مقاربته التحليلية من زاوية واحدة، بل المفهوم يتماهى ما بين الحقل الفلسفي الأخلاقي والحقل السوسيولوجي النقدي لإعادة تركيب ذلك التفكك الحاصل في مقولات اليوم للاستهلاك الآني والهيمنة المقنعة بأساليب إيديولوجية تبريرية. ويرى تورين أنه إذا أردنا أن نختبر ذواتنا كذوات فاعلة، فإنه يظهر من خلال التزاماتنا ومسؤوليتنا "تجاه حق كل فرد في العيش بكرامة والاعتراف له بهذه الكرامة؛ أي بما يستحيل انتزاعه من دون أن تفقد الحياة كل معناه".
الذات الفاعلة كبراديغم جديد
إن هذه الفردانية الموجهة نحو الحضور للذات هي حديثة بامتياز حسب أنطوني غيدنـز؛ لأنها تفترض التجرد عن الأدوار الاجتماعية قدر الإمكان والانتقال من عالم المجتمع إلى عالم الفرد، عالم الفاعل المتجه نحو ذاته (المرجع السابق نفسه)، لكن آلان تورين ينأى بنفسه عن استيراد هذا المفهوم جاهزا، بل يقدم لنا رؤيته النقدية للذات الفاعلة عبر اختلافين اثنين: الأول هو أنها تتحدد بمقاومتها لعالم الاستهلاك اللاشخصي وعالم العنف والحرب، إنها استحضار للذات وإرادة العودة إلى الذات مع استدعاء فكرة النضال الاجتماعي واستحضار صورة المقاومة من أجل الحرية. والاختلاف الثاني يكمن في أن الذات الفاعلة لا تطابق ذاتها بالكامل، بل تبقى مقيمة في عالم الحقوق والواجبات، عالم الأخلاقية، وليس عالم الاختبار والتجربة (المرجع السابق نفسه، ص 179). إنه مفهوم قد يبدو ملتبسا؛ لكنه جدير بالفهم والفعل والإمكان في عالم تسوده إيديولوجيات الفوضى الخلاقة والاستقطاب اللامحدود، عالم العنف والحرب والعنصرية، إنها الاقتناع الذي يوجه كل حركة اجتماعية وهي العودة إلى المؤسسات التي تحمي الحريات في جل المجتمعات المدنية، فبقدر ما تضعف قدرة المجتمع على تغيير ذات الفرد تضعف معها تاريخانيته ويبتعد بها عن جوهر الفعل أي نتاج قدرته على فهم العالم وتغييره، أي عن الفرد الواقعي بما له من حقوق فردية شاملة. في حين تتكاثر عليه الواجبات المفروضة من قبل الجماعات التي يشعر بالانتماء إليها، في جدلية حتمية بين الذات والانتماء إلى طبقة أو إلى أمة مهمتها تحرير الإنسانية؛ لكن من يحمينا من السلطة والهيمنة التي تؤول إلى تدمير الفردانية والإفلات من إيديولوجيات الطائفة والمذهب؟
إن صورة الفرد تظهر يوما بعد يوم، شأن صورة الكائن الإنساني الذي يؤكد أنه كائن يتمتع بحقوقه أن يكون فردا، وليس الإنسان (l’Homme) الذي يعلو الصفات كلها، أي كائنا إنسانيا يملك حقوقا مدنية وحقوقا اجتماعية وبالأخص حقوقا ثقافية تعطي كل فرد حق اختيار لغته ومعتقداته ونمط حياته وحق اختيار جنسانيته. تلك الذات التي لا تفتقر إلى المبادئ الموضوعية لأشكال التنظيم الاجتماعي، بل الانتصار لمبدأ توجيه التصرفات "كن أنت ذاتك"، ولا هي حضور واقع فوق بشري (surhumain) في كل فرد، بل إن تاريخها هو لحماية الخصوصيات الثقافية التي لم تتجدد بالعمل الجماعي الطوعي وبمؤسسات الانتماء والواجب (المدرسة، الطائفة، المجتمع....)، بله الانتقال من الحقوق الأكثر تجريدا وعمومية إلى أخرى أكثر عينية وخصوصية.
هل نعتبر أنفسنا كلنا ذوات فاعلة؟ ليست الذات الفاعلة مجرد ممارسة فارغة للوعي، بل هي بحاجة إلى الصراع الذي لا قيام للعمل الجماعي بدونه، لكنها تبقي على الدوام فردية، على الرغم من انصهارها في الاجتماعي وتبقى هي المدافعة عن الحق العام، كما تبرز وتتضافر مكوناتها ما بين العلاقة مع الكائن الفردي صاحب الحقوق الأساسية، وما بين صراعها مع القوى المهيمنة.
إن حقيقة الذات الفاعلة ليست وليدة اليوم، تاريخها هو تاريخ الإنسانية وهي مبثوثة في كل فصول التاريخ، إنها بحث حي وقلق عن معنى كل تصرف من تصرفاتنا؛ فمن يصبح ذاتا فاعلة تلتحم وتلتئم مع ذاتها نحو ما يعطي حياته معنى، نحو ما يخلق حريته ومسؤوليته وآماله (المرجع السابق نفسه ص 196)، ضد كل إيديولوجية حتمية.
إنها كما تظهر جلية في أنحاء عديدة من العالم، لا تقتصر على تجسيد الأمل والخلاص أو تمثيل إرادة إسداء العون إلى الجميع الذين تطالهم أيادي الهيمنة، بل إنها تدرك الحرية والشفافية. فالفرد لا يبني ذاته كفرد ولا يكتسب تقديرا لذاته إلا إذا تلقى صورا مؤيدة له من أعضاء الطائفة التي ينتمي إليها كما يقول جورج هربرت ميد (G.herbert Mead)،إذا أنشأ الجميع في ما بينهم روابط اجتماعية ايجابية ودافعوا عنها ضمن حس مشترك بالانتماء واعتقدوا بمسؤولية الجميع في تمثل فردانية كل منهم وتلك هي الغاية من التبادلات الاجتماعية ومناهج الإدارة والتدبير.
وعلى الرغم من أن السوسيولوجيا النقدية حاولت الكشف عن الوهم الذي أثارته السوسيولوجيا الكلاسيكية حول المعايير والأدوار والوظائف، واعتبار أن هناك ما يسمى بعلاقات الهيمنة والسيطرة (عبد الإله فرح، آلان تورين ودينامية السوسيولوجيا، مؤمنون بلا حدود، ديسمبر 2018.)، فإن هذه السوسيولوجيا تلقت سهام النقد نظرا للمغالاة في دور الفاعل وفصله عن انتمائه داخل النسق الاجتماعي.
يقول آلان تورين في معرض تحليله حول نقيض الذات الفاعلة: "لقد ورثنا عن السوسيولوجيا الكلاسيكية فكرة الأنوميا (Anomie) بمعنى أن أزمات التنظيم الاجتماعي هذه تحدث أزمة في الشخصية" (آلان تورين، المرجع نفسه، ص241.)؛ لكن اليوم لم نعد نبحث عن سبب اختلالات الشخصية في المجتمع بل في الذات الفاعلة نفسها ووعيها ذاته. فقد استطلع آلان اهرنبرغ (َAlain Ehrenberg) في معرض تحليله للأمراض العقلية في المجتمع وهو ينظر إلى عجزنا عن الفصل الكامل بين ما يتعلق بالذات الفاعلة وما ينتمي إلى الهو(soi) أو إلى الأنا( moi)، مما يفرض بالمناضل العامل مثلا التمييز بين المطالب المتعلقة بالحقوق النقابية وتلك التي مصدرها الوعي الطبقي.
لقد اعتدنا سماع الخطاب النقيض، حسب تورين، وأن نكتشف في ذواتنا انفلاتات سميناها نزوات وليبيدو، غريزة الحياة (إيروس) وغريزة الموت (ثاناتوس)، وكذلك إرادة القوة التي أراد نيتشه (Nietzsche) أن يحررها من أخلاق الضعفاء، وهذه الأفكار التي غذت القرن العشرين لا تتعارض مع ما تستحثه السوسيولوجيا النقدية، فالذات الفاعلة تعيش في صراع مستديم مع معايير المجتمع وسلطاته. وحتى في إرادة القوة، يمكن الدعوة إلى الخلق الذاتي ونبذ كل خضوع للوصايا الخارجية.
إن الذات الفاعلة تظهر في وعي الفاعل، سواء حملتها أو لم تحملها أي حركة اجتماعية؛ فلا يصح القول إلى انضمام لا واع إلى إحدى الحركات الاجتماعية أكثر مما يصح الأمر بمعتقدات اجتماعية أو دينية لاواعية. فسوسيولوجيا الذات الفاعلة لا تكتفي باجتياز التاريخ متنقلة من قمة إلى قمة، بل تحاول أن تُظهر في كل فرد قدرته على إعطاء معنى لتصرفاته الخاصة.
ودرءا لكل نقيض، فالكلام عن "حقوق ثقافية" وتحقيق الاعتراف بها بعيدا عن أشكال التنظيم الاجتماعي والعلاقات بين الأكثرية والأقليات وشروط العدالة الاجتماعية تبقى محور المطالب المبنية على رهانات اليوم في المدن الكبرى وتطول الأقليات الإثنية والدينية والجنسية في تغيير أعمق عما كان عليه المجتمع الصناعي وعادات السلطة المهيمنة. فمحور "التعددية الثقافية" (multiculturalisme) ينذر اليوم بأوضاع أقل مأسسة كنشوء الطوائف والأقليات إثر موجات الهجرة والطرد والنفي، مما يفرض عليها الاندماج بالجماعة القومية التي تعتبر نفسها حاملة لقيم شاملة، والأكثر تطرفا في عالم اليوم، هو الدستور الأمريكي- حسب تورين- الذي يعتبر أعمى إثنيا وعرقيا (ethnically blind) مما يفسر غنى الحركات الانفصالية بين الأمريكيين الذين هم من أصل إفريقي على مدى التاريخ.
وعلى سبيل الختم، نعود مع فكرة "تصادم الحضارات" كما عرضها صامويل هنتينغتون" (Samuel Huntington)، فآلان تورين يؤكد أن "فكرة العولمة توحي بعالم تسيطر عليه مشروعات أو شبكات اقتصادية ومالية، وخدمات وقيم ومصالح، في حين أن نظرية هنتينغتون تلجأ إلى مفهوم الحضارة، مستعملة الكلمة بصيغة الجمع (الحضارات) أي بمعنى مختلف تماما عن ذاك الذي كانت تمنحه إياه فرنسا خلال القرن الثامن عشر، والذي هو اقرب إلى الفكرة الألمانية الحضارة (Kultur)، كي تثبت أن النزاعات الأساسية في العالم الراهن لا تورط الاقتصاد والسياسة وحسب، بل ما هو أبعد من ذلك بكثير، بإنشائها المعارضة بين المجموعات العالمية، لا سيما الثقافية منها والدينية، تلك التي تحركها دول تتمتع بقدرة تعبوية عظيمة" (المرجع السابق نفسه ص 61) تحركها أيادي الإعلام والدعاية المهيمنة عبر العالم.
*مؤطر تربوي / أكاديمية سوس- ماسة أكادير- المغرب