سيرا على ما قام به كبار المفكرين والعلماء الذين تعاقبوا على مدينة فاس، العاصمة العلمية للمملكة، خلال المراحل الماضية، قام علماء الدين بدور كبير في الرفع من المستوى الفكري والثقافي وترسيخ قيم الأخلاق الدينية النبيلة وسط الحرفيين والعمال والتجار وجميع سكان المدينة والمناطق المجاورة لها، ولم يكن يقتصر دورهم على الإرشاد الديني في ما يتعلق بالمعتقدات والعبادات، بل كانوا يعطون للمعاملات ما تستحق من أهمية، لما لها من دور في تقوية التماسك الاجتماعي وفي إصلاح المجتمع. وهو ما ظلوا يقومون به باستمرار من خلال خطب الجمعة ومن خلال الدروس التي كانوا يقدمونها في المساجد يوميا.
وأقف هنا على ما تم خلال مرحلة الستينيات والسبعينيات بمختلف المساجد الموزعة على جميع أحياء المدينة القديمة، وأذكر من هؤلاء العلماء:
- سيدي عبد الرحمان الغريسي - سيدي عبد الكريم الداودي بمسجد القرويين - والفقيه الإدريسي والعمراني بضريح مولاي إدريس، والفقيه سيدي عبد الرحمان ربيحة بمسجد الأندلس، والفقيه العلمي أتاي بمسجد الرصيف، والفقيه سيدي إدريس العراقي وأقصبي بضريح سيدي احمد التيجاني، والفقيه الصقلي بمسجد الديوان والفقيه العراقي بمسجد باب الكيسة، والفقيه سيدي فضول بمسجد قصبة النوار، والفقيه الزيتوني في منزله بحي البليدة قرب مدبغة شوارة، وغيرهم.
ولكون هؤلاء العلماء كانوا يتوفرون على معرفة واسعة في جميع المجالات، وهو ما أدى إلى انتشار المعرفة وقراءة الكتب لمفكرين شرقيين ومغاربة أو مترجمة لمفكرين أجانب، والتي كانت متوفرة ومنتشرة بمحيط مسجد القرويين وبمدخل العطارين، وكانت تباع بأثمان رخيصة في متناول جميع فئات المجتمع.
بالإضافة إلى المجلات التي كانت تصدر بكيفية دورية، والتي كانت تتناول المجالات الدينية والعلمية والأدبية والفنية، حيث كان هناك تكامل بين الدور الذي كان يقوم به العلماء والذي كان يتم من خلال قراءة الكتب والمجلات الدورية والصحف اليومية، ما جعل المستوى الفكري يرتفع وسط جميع فئات المجتمع، وهو ما تكرس بشكل قوي في العلاقات والأعراف والتقاليد، ما كان له تأثير كبير في تحسين وتطوير العلاقات المهنية والإنسانية، جعل مدينة فاس تظل في وضع متقدم على كافة المستويات.
ولم يكن هناك مجال للتطرف الديني؛ بالإضافة إلى الانفتاح الذي يعرفه المجتمع، ومنه الاهتمام بالموسيقى والغناء من خلال الإذاعة الوطنية أو الإذاعات الجهوية، مثل الاستماع إلى الموسيقى الأندلسية وقصائد الملحون، والأغاني العصرية بما فيها الشرقية والمغربية، وهو ما يعني أن المجتمع الفاسي بقدر ما كان متمسكا بالقيم الدينية والأخلاقية بقدر ما كان منفتحا بشكل كبير.