تعزيز قيم المواطنة بالجامعة المغربية

جمعة, 06/26/2020 - 11:00

نسعى من خلال هذه الورقة، عبر التحليل والاقتراح، إلى ملامسة أحد الاختلالات الثقافية- البيداغوجية التي تعرفها، راهنا، الجامعة المغربية، والتي تُرخي بكثير من التبعات والعواقب على مناحي الحياة الاجتماعية المختلفة.. الاختلال الذي نقصده، ها هنا، هو ضعف العناية بثقافة المواطنة داخل الجامعة، وقلة الجهد البيداغوجي والإداري المرصود لإشاعة هذه الثقافة، وغرسها في نفوس الطلبة وغيرهم من الأطْقُم العاملة بالجامعة.

بدايةً، إذا نحن ألقينا نظرة – ولو عجلى -على برامج الجامعات المغربية، وسياساتها التكوينية والبحثية، فإننا لن نلاحظ غير حضور باهت للتربية على المواطنة فيها؛ بحيث نلمس شبه غياب هذه المحاور في مناهج وبرامج عدد من الكليات الأخرى، والمعاهد والمدارس العليا التابعة للجامعات...

والواقع أن الشأن "المُوَاطَنِي" يجب أن تعتني به، وتتقاسمه الجامعة المغربية، بحُكم دورها التنويري والإشعاعي، مع مؤسسات أخرى كثيرة تشاركها الاهتمامَ نفسَه، وتسعى جميعُها إلى التعاون، وتكثيف الجهود، في أفق اقتراح صيغٍ فعّالة، ومداخلَ جديدةٍ لإرساءِ ثقافة المواطنة على أرضية صلبة؛ من خلال تنزيل التشريعات ذات الصيغة الوطنية في هذا المجال.

لقد عرف المغرب، منذ ما يقارب العقدين من الزمن، تحولات كبرى مسّت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما شهد البلد حيوية تشريعية مهمّة؛ استجابةً لحاجات المجتمع المُلِحّة ومستجدّاته المتسارعة، وسعياً لتحسين ترتيبه العالمي من منظور المؤشرات التنموية، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو "المُوَاطَني" أو غيرها من المستويات الكاشفة عن "جودة الحياة"، والعاكسة لمقدار التمدّن والتقدم. وفي هذا السياق، تحديداً، كان لا بد من الاشتغال وَفق مقاربة نسقية شمولية عميقة تمَسّ عددا من القضايا والجوانب، وفي طليعتها المسألة الحقوقية؛ ممّا بوّأ التجربة المغربية – في إطار ترسيخ مَبادئها- مكانة متميزة، وجعلها أنموذجاً يُحتذى به في مجال العدالة الانتقالية...

وتعزيزا لهذه المنزلة المشهودِ له بها، على الصعيد الدوْلي، أحدث المغرب مؤسسات مستقلة عُهِد إليها، في الأساس، أمر تتبع تنفيذ السياسات العمومية في مجال حقوق الإنسان، وعلى رأس مهامّها أيضا الدفعُ، بطريقة مقنعة ومتبصّرة، إلى المصادقة على المزيد من المواثيق الدولية في مضمار "حقوق الإنسان" ، أو الانضمام إليها، ومراجعة التحفظات المسجلة سابقا على عدد منها. ومنها، كذلك، تتبعُ تنفيذ مقتضياتها فعليّا، بالإضافة إلى إعداد تقارير وطنية دورية عن التزامات بلادنا الدَّولية، ومواكبة تنفيذ التوصيات الصادرة عن الهيآت الدولية المعنية، فضلا عن استقبال الادّعاءات الواردة في البلاغات والتقارير الصادرة عن الحكومات والمنظمات الدولية، الحكومية وغير الحكومية، والنظر العميق فيها، قبل مباشَرة الرّد عليها.

ومن مهام هذه المؤسسات أيضاً، الإسهامُ في دعم قدرات منظمات المجتمع المدني العاملة في المجال نفسِه، وتيسير مشاركتها في المنتديات والملتقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، إضافةً إلى الاضطلاع بدور محوري وفاعل في تنسيق العمل الحكومي المتعلق بالنهوض بثقافة المواطَنة، والتربية عليها عبر مختلِف الوسائط والمؤسسات والآليات المتاحة، في التعليم والإعلام وغيرهما.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، بعد هذه التوطئة، هو: ما محلّ الجامعة المغربية من هذه المستجدات المؤسسية؟ وما الذي ينبغي مباشرته - من مشاريع واقتراحات موازية على المستوى الجامعي - بهدف مواكبة العمل الجاري في قلب المؤسسات المشار إليها آنفا؟

إن ترسيخ المواطَنة كثقافة (فكراً وممارسةً) بالجامعة المغربية يقتضي، على هذا الأساس، تكثيف الأنشطة الجامعية، والجامعية-الموازية ذات الغايات المركبة؛ بحيث يتم تمرير قيم المواطَنة عبر هذه الأنشطة دون التصريح بالقيم المطلوبة كما يحصل مع الصيغ التقليدية التي تقوم على أساس التلقين المعرفي. إن المتوخى، هنا، هو أن يعرف الطالب حقوقه، التي تستتبعها تلك المواطنة؛ من الاستفادة من تكوين صلب ذي جدوى، وتوفير شروط التحصيل الأكاديمي الجيد، وتجهيز المؤسسات ببنيات تفعيل الحياة الطلابية بما يضمن لها نجاعةً في أداء أدوارها المنوطة بها، علاوة على ترسيخ ثقافة الاحترام، والإنصات، والتفاني في تقديم الخدمة، ونهْج سياسة القرب لدى تعاملها مع الطلبة... مثلما يُتوخَّى أن يَعِيَ جيدا مسؤولياته وواجباته داخل فضاءات الجامعة؛ بدءا من ضرورة المحافظة على ممتلكاتها المختلفة، وانتهاء بالعمل، بكل جدّية، على الإسهام في تحقيق غاياتها ورهاناتها الكبرى، مرورا باحترام جميع مكوناتها، والمشاركة الفعالة في هياكلها في حدود ما ينص عليه القانون، والانخراط في مشاريعها المهيكلة... إلخ.

والواقعُ أن الجامعة المغربية تحتاج إلى نَفَس طلابي جديد يواكب المستجدات المجتمعية المحلية والعالمية.. نَفَس يقطع مع كل أشكال النوستالجيات الإيديولوجية (الإطلاقية) التي تبرّر خطاب العنف والكراهية، والتي تستعدي قيم الاختلاف والمساواة وغيرهما من المبادئ المُؤصِّلة لقيم حقوق الإنسان التي صادق عليها المغرب. وهذا النفس الجديد لا يمكن بثه دون دعامتين رئيستين؛ أولاهما وضع العلوم الإنسانية موضعا رياديا يليق بما تُسْديه من خدمة إنسانية نبيلة، وثانيهما تكثيفُ الأنشطة الجامعية الموازية على نحوٍ تتحول فيه الجامعة إلى ورش ثقافي مفتوح على طول الموسم الجامعي، بامتدادات ثقافية وفنية ورياضية.

ولا بد من القطْع مع النظرة "البرغماتية القاصرة" إلى الآداب والفنون والعلوم الإنسانية؛ أي مع تلك النظرة التي تختصر قيمة الحقول المعرفية والإبداعية فيما تقدمه من خدمة مادية (قابلة للقياس المادي)، والتي تم بموجبها تهميش هذه المجالات والحقول بالجامعة، وهو ما أدى إلى إشاعة الفكر الأحادي الذي ينزّه الذات ويشيطن الآخر، والذي لا يكف عن استدعاء فرضية المؤامرة لتفسير كل أشكال الإخفاق الفردي والجماعي.

إن هذه النظرة مسؤولة -حالَ تزكيتها من قبل مسؤولين عن سن السياسة التعليمية الجامعية - عن كثير من مظاهر العنف الجامعي، وكثير من الاختلالات ذات الصلة؛ من قبيل هدر الزمن الجامعي، وسوء الفهم، وضعف التواصل، وحالات الاحتقان التي تعرفها الجامعات المغربية مع اقتراب مواعيد الامتحانات.. وهي حالاتُ احتقان يسهم في إذكائها فشل الجامعة في توفير المتنفس الضروري للطاقات الطلابية الكامنة، وهي طاقات يجدر بالجامعة توجيهها صوب مخارج ثقافية وفكرية وإبداعية وفنية ورياضية.

والحق أننا في مسيس الحاجة إلى القيم الإيجابية التي تنادي بها العلوم الإنسانية، وهي العلوم التي لا تتوقف عن ابتكار الطرق الجديدة الكفيلة بإشاعة هذه القيم في هيئة كفايات أخلاقية يتلمّسها الناظر في أحوال الجماعات وسلوكاتها. لذلك، لا نرى من مسالك متيسرة لبلوغ هذا المطمح أكثر من مسلك المراهنة على المؤسسة الجامعية؛ لأن إصلاح العطب القيمي -على هذا المستوى (من خلال تحسين المُخْرَجات القيمية للجامعة) -هو ما سيضْمَن تصدير هذه القيم إلى مؤسسات الدولة المختلفة، وعلى رأسها مؤسساتُ التنشئة الاجتماعية.

الفيديو

تابعونا على الفيس