مدينة بانووا " Panowa" (الزهرة الصفراء) تعرف أيضا باسم "كوكس بزار" Cox’ Bazar، محافظة حدودية في أقصى جنوب شرق البنغلاديش. اشتهرت بشاطئها الممتد على 120 كيلومترا، وهو أطول شاطئ في العالم؛ لكن دون جاذبية أو شهرة سياحية تذكر. ما أعاد هذه المدينة إلى الواجهة هو إيواؤها لأكبر مخيم لاجئين في العالم، بحكم نقطتها الحدودية مع دولة "ميانمار" التي كانت تعرف بـ"بورما" سابقا. وهو موطن الناشطة الحقوقية "أون سان سوتشي" Aung San Suu Kyi، الحائزة على جائزة نوبل للسلام سنة 1991، من أجل دعمها للنضال اللاعنفوي.
تحولت ضواحي المدينة، المتاخمة لبلد الحائزة على جائزة نوبل للسلام، إلى مخيمات رهيبة تضم ما يفوق مليون لاجئ من المسلمين الروهينكاس Rohingya’s المرحلين قسرا من ميانمار.
اُستدعيت للمشاركة ضمن بعثة دولية لإنجاز تقرير حول ظروف ومعاناة اللاجئين الروهينكاس المسلمين بالمخيم.
أعد المنظمون خيمة كبرى للاجتماع بممثلين عن جماعات الروهينكاس. ولما ولجنا الخيمة، قمت بتحية الإسلام. فرد الحاضرون وأعناقهم تشرئب نحو المنصة، وبصوت واحد وفي مشهد مهيب اقشعر له بدني، واغرورقت له عيناي: "وعليكم السللللللللللللام ورحمة الله تعاااااااااالى وبركااااااااااته". لم أشعر قط في حياتي بوقع رد تحية الإسلام، كما شعرت به تلك اللحظة. شعب في أقصى الدنيا لا تربطنا به رابطة، إلا واحدة، رابطة العقيدة. شعروا وشعرنا في تلك اللحظة بأن كل الروابط توحدنا. إنها الأخوة في الإسلام. وإن اختلفت الألسن والثقافة والجغرافيا والتاريخ، فالعقيدة واحدة. فكان حوار الثقافات يسره حكم العقيدة.
بعدها ولجت خيمة أخرى وهي ليست إلا قسما لتدريس الأطفال. توسطت متربعا مجموعة من الصغار، وشرعنا نردد سور الفاتحة والإخلاص والمعوذتين. وكانوا يرددون معي السور بانضباط واهتمام، ولو أحيانا بتعثر النطق واللسان. التحق أطفال آخرون من أقسام أخرى، فأصبحت تلاوة القرآن تصدح في فضاء المخيم. أثارت حناجر الأطفال العالية فضول اللاجئين الآخرين، أكثر مما أثارته هالة سيارات وكاميرات البعثة. عيون الأمهات دامعة، وقلوب الآباء خاشعة وهم يتابعون فلذات كبدهم يرددون تلك السور من القرآن الكريم. لم أكن أتوقع أثر تلك الجلسة البسيطة في ذاك الفضاء البسيط في نفوس تلك الأرواح البسيطة. قهر وظلم وتهجير وقمع واضطهاد وظروف قاسية، كلها لم تمنع شعب الروهينكاس المسلم من التشبث بعقيدته، والشعور بالفخر بالانتماء إلى دين حنيف اسمه الإسلام.
سألني أحدهم: من أي بلد أنت؟ أجبته مبتسما: لا أظنك تعرف الكثير عن بلدي. فرد واثقا: أخبرني وسنرى، أنسيت أننا قرأنا القرآن جميعا؟ أنسيت أننا نتوجه إلى نفس القبلة كل يوم، على الرغم من البعد والمسافات، وعلى الرغم من اختلاف اللسان والبشرة والثقافات؟ استسلمت لجوابه المقنع وحماسته الظاهرة وأجبته: من المغرب! ابتسم بدوره، واسترسل: أنتم مملكة؟ أجبته مندهشا، صحيح! وعاهلكم شريف من سبط الرسول؟ نظرت إليه مستغربا: نعم صحيح. ثم أضاف: ويلقبونه بخليفة المسلمين؟ قلت: ليس بالضبط، وإنما أمير المؤمنين. ثم سألني: وما الفرق؟ قلت: هو الفرق بين المسلم والمؤمن دلاليا. ليس المسلمون وحدهم من يؤمنون بالله؛ فهناك ديانتان سماويتان أخريان تلتقيان في الإيمان بالله. سألني: وهل عاهلكم يقبل أن يكون أميرا لليهود والمسيح وهو مسلم؟ عقبت على استفساره: سيدنا عمر بن الخطاب، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، كان أميرا للمؤمنين. من وحد الله وآمن به فهو مؤمن. وهذه رمزية التسمية: الإسلام دين التسامح. لكن دين الدولة هو الإسلام، ودستور المملكة يضمن حرية المعتقد.
جفل الرجل وأخذ يصيح وينادي أصدقاءه، لم أستوعب حينها ردة فعله، ظننت لحظة أني ربما وقعت في شيء أساء إليه. أخذ يحدثهم بـ"البورمية" وهم جميعا ينظرون اتجاهي باندهاش، وآذانهم صاغية، في مشهد يوحي بمحاكمة شخص تشير إليه نظراتهم. شرعت أتساءل في قرارة نفسي وأنا أستحضر اختلاف الثقافات، ربما قلت شيئا، ولو عن غير قصد، لم يرق اللاجئ البورمي. لن أخفي أني شعرت بالإحراج للحظة أمام تصاعد النظرات نحوي. اقترب مني ثانية وقال: كثيرا ما كنت أردد أن ديننا عظيم. لكن نحن من ليس في مستوى هذا الدين. بلدكم دولة مسلمة، وعاهلكم أمير للمؤمنين، ودستوركم يضمن حرية المعتقد. وأكيد عندكم كنائس للمسيح واليهود. ونحن لم نسمع قط بسوء معاملة الأقليات الدينية في بلدكم. وهذا ما جعلني أقرأ عن موطنكم كآخر دولة مسلمة في أقصى المغرب.
كان أمر زعيم جماعات الروهينكاس غريبا. كان يبدو منزعجا متبرما قلقا. نظر إلي وقال: ليس في دستورنا ما يشير إلى دين الدولة. ولو أن دستورنا الجديد ينص على حرية المعتقد، فهي ليست إلا ذريعة وهامشا لتصرف الدولة في ذلك. الدليل أمامك. شعب بأكمله طرد من بلده من أجل عقيدته. فلماذا لا يعامل "أمير المؤمنين" أقلياتكم كما تعامل الأقليات في بلدنا؟ أجبته: وهل ما يقع عندكم نموذج لأمير المؤمنين؟ ثم كان رده: حاشا أن يكون كذلك. فالمقارنة غير واردة. جلس فوق حجر بقرب الخيمة ثم نظر إلي والدمع في عينيه وقال: "رب إمارة ولو على الحجارة". هذا قول مأثور. لكنهم أخذوا الإمارة والحجارة، وأرادوا أن يأخذوا العقيدة. لن يتمكنوا من ذلك، فعقيدتنا في قلوبنا، عليهم اقتلاعها لثنينا عن ذلك. اغتالوا منا الآلاف وشردوا أسرنا وعذبوا منا الكثير وسلبوا ممتلكاتنا، وأهدروا كرامتنا. ما يجهلون أن شراييننا تجري فيها عروق الإيمان والإسلام. وهذا مصدر قوتنا. سنصمد كما صمد الأجداد. انتبه معي، لولا صمود الأسلاف لما بلغنا الإسلام، ألسنا في مستوى هذا الإرث؟ إنه جزء من هويتنا. وإذا تنازلنا عنه طمست تلك الهوية، وهذا أخطر من الترحيل. فعلى الأقل لنا هوية بين البرية، ولو أننا مهجرون وخارج وطننا في هذه البلدة الحدودية. وكما قال أحدهم: "تدمرني لتبقى، وسأتماسك لكي نبقى. ولنرى من سيدون له التاريخ عزيمة البقاء الأقوى".
صافحني معتذرا: لقد أخذت من وقتك الكثير؛ لكنني سأعود وأقرأ المزيد عن بلد أمير المؤمنين. ثم أضاف مبتسما: ومن يدري؟ فكما حضرت أنت هنا وقرأت القرآن مع صغارنا، سنأتي يوما، إذا كتب لنا البقاء، لزيارة بلد أمير المؤمنين. وإذا تعذر فسيأتي صغارنا. وحتى إذا تعذر فعلى الأقل كان لي شرف مصافحة واحد من بلد أمير المؤمنين.
ولما لاحظ التأثر على وجهي، صافحني بحرارة وقال: لا عليك أخي، لقد قرأت قولا لبوشكين: "الضربات القوية تهشم الزجاج، لكنها تصقل الحديد". نظر إلي مبتسما، وشعرت بأنه حرص على أن نفترق على الابتسامة. بادلته إياها والتحقت بالبعثة مودعا، متأثرا، معجبا برباطة جأش الرجل. إصرار وتمسك بالعقيدة. أمل واستشراف للمستقبل، على الرغم من ظروف صعبة، وحياة شبه بدائية داخل المخيمات.
حضرني في طريق العودة قول الكاتب الأمريكي Dale Carnegie "تتحقق الكثير من الأشياء المهمة في هذا العالم لأولئك الذين أصروا على المحاولة، على الرغم من عدم وجود أمل". فسقوط الإنسان ليس فشلا، ولكن الفشل أن يبقى حيث سقط. "فالإنسان" ـ كما كان يردد البطل الأسطورة محمد علي كلاي ـ "هو من يعرف أنه مغلوب ويستطيع أن يغوص في أعماق روحه ويستخرج منها قوة إضافية للفوز". كلها حكم غالبا ما نرددها، لكننا لا نستوعب عمقها حتى نعاين حقيقتها على أرض الواقع، كما كان في حوار "الزهرة الصفراء" مع ذاك اللاجئ الروهينكي المسلم جنوب شرق آسيا على ساحل البنغال.