هي سيرةٌ ذاتية مَحكيةٌ حكاها المناضل الأمريكي الزنجي الشهير-المسلم-مالكوم إكس، للكاتبِ الزِّنجي المعروف "أليكسي هاليي"، صاحب رواية "جذور".
لنفهمَ نوعيةَ النضال الأمريكي الزنجي الذي انخرط فيه مالكوم إكس-المقتول عُنصرية-كما ورثه عن أبيه المقتولِ كذلك، نستعيدُ قولَه ذات يوم للمناضل الغني عن التعريف "مارتن لوثَر كينغ":
"لقد فعلتَ ما لم يفعلْه أحدٌ، أنهيتَ الفصلَ بين السود والبِيض في المراحيض، والحافلات، ولكن ذلك لم يكلِّفْ هذه البلاد شيئا. أما إنهاء فصلِ الزنوج الاقتصادي، فهو يُكلف مِئات الملايين من الدولارات، وأنا لا أرى كيف ستُحَقِّقُهُ بِمُجرد استِنهاض الهِمم".
قلب "هارليم"؛ عالم يَعُجُّ سودا، ومروقا عن القانون:
قوانين الخروج عن القانون:
كل الأحلام تؤدي إلى نيويورك – التفاحة الكبيرة كما كانوا يسمونها -وإلى "هارليم" بالضبط. بين هذه الأحلام ترعرع حلمي بجمال نيويورك، وأنا ما زلتُ طفلا بـ "لانسينغ"؛ بدءا من الصور التي كان الوالد يعود بها من استعراضات أتباع "ماركوس كارفي". تحقق حلمي، جزئيا حين اشتغلتُ مُنظِّفَ صحون في الخط السككي الرابط بين بوسطن ونيويورك؛ ثم كليا لأجدني واحدا من "الهارلميين".
"كانت نيويورك جنة بالنسبة إلي، وهارليم أعلى درجاتها"
حينما تسلمت عملي في أحد "البارات" -1942- وأنا ابن السابعة عشرة، بعد طردي من السكك الحديدية لعُنفي ؛استمعت ُمن صاحبه إلى القانون الآتي: عدم التأخر، عدم التهاون، عدم السرقة، وعدم المشاجرة مع الزبائن ،خاصة الجنود.
من عملي هنا تعلمت، من الزبائن، كلَّ شيء عن هارليم، حتى تاريخها الهولندي، الألماني، الإيرلندي، الإيطالي واليهودي؛ والآن الزنجي بعد أن فر الجميع من أمامهم.
هكذا انفتحت أمامي موسوعة كبيرة عن هارليم، تغريني يوما بعد يوم بالخطوة الأولى صوب المجهول:
القمار، الدعارة، المخدرات، السرقة بكل أشكالها.
كل المسروقات في الميناء تصل إلى هارليم، حيث يتقاطر البوليس واللصوص كالمطر.
حتى السلاح، حتى العطور الفاخرة. استهوتني "قوانين" الباعة المتجولين، في الخروج عن القانون؛ فتخصصت فيها، وأنا ما زلت نادلا.
تواصَلَت علاقتي مع صوفيا الشقراء، تزورني فأقضي مداومتي وأنا أزهو بتقديمها لكل من حولي.
وابتدأت علاقتي بالبوليس حينما همستُ في أذن جندي أسود، يشرب وحيدا في البار: هل تريد امرأة؟ من سوء حظي وقعت على مُخبِرٍ، وسرعان ما جاءت الشرطة تبحث عني. نِلت إنذارا فقط، لنقاء سجلي العدلي، ولعدم قبولي "البقشيش من المخبر"؛ لكِني طُردت من عملي، حينما تبين لصاحبه أن الشرطة أدخلتني في دائرة اهتماماتها.
في جيبي كلُّ الشواهد التي نِلتها، بالبار، عن تخصصاتي في الخروج عن القانون بهارليم، ولن تطول بي البطالة.
بعد تداول في الأمر مع كبار المحترفين اقتنعت بأن أفضل شغل مربح لي هو بيع سجائر "الماريخوانا".
رغم وجودنا في الشمال الأمريكي، المزعوم زيفا، أنه أكثرُ تحرُّرا في أمر السود؛ فقد احتد اضطرام العنصرية بهارليم؛ خصوصا بعد أن أغلق العمدة مرقصا كبيرا، اشتهر بالرقص المختلط بين البيض والسود. هاجت هارليم، واندلعت المواجهات وأعمال النهب؛ وتكهرب الجو، ولم يعد هناك من حديث غير ما جرى، وما أبان عنه السود من إقدام.
"قابلت شورتي هاندرسون مؤخرا، واستحضرنا بعض الأحداث الطريفة لتلك المظاهرة؛ مثل الزنجي الذي خرج منها بلقب: القدم اليسرى، لأنه نهب خمسة أحذية كلها للقدم اليسرى؛ وذلك الصيني الذي لم يُمَس مطعمُه، لأنه ألصق على بابه ورقة، كتب عليها بإنجليزية ركيكة: أنا أيضا مُلونٌ".
بعد الأحداث ماتت حياة المجون والرقص في هارليم، بعد أن هجره البيض خوفا. ألا يدفع السود دائما ثمن الصحون المكسرة؟
من السجن إلى الإسلام:
تطورت انحرافاتي بكيفية سريعة وخطيرة، وازداد لدي تعاطي المخدرات؛ وحتى اجتماعيا أصبحت فظا لا يطيقني حتى أقرب أصدقائي. ومن جهة أخرى صرت أجاهر بالحادي، ولا أبدي أي تقدير لما يقدسه الناس.
ثم كونتها، عصابة مختلطة من ذكور وإناث، من بيض وسود؛ وهذه كانت سابقة في البلاد كلها.
وزعت تخصصات الرصد والتتبع، والتنفيذ، والشحن والتسويق. بدأت إنجازاتنا، في تخصص سرقة البيوت، تثير اهتمام الشرطة، يوما بعد يوم؛ إلى أن جاء يوم أداء الحساب، فوقعنا في الأسر.
"حكموا علي بعشر سنوات، وعلى الأختين بمدة تتراوح بين سنة وخمس سنوات".
ذات يوم من أيام 1948 سأسمع لأول مرة عن "الدين الطبيعي للرجل الأسود"؛ بعد أن توصلت، في السجن، برسالة من أخي "ريجينالد" يطلب مني فيها ألا آكل لحم الخنزير، وألا أدخن، و"سأدلك على طريقة تخرجك من السجن".
ثم توالت رسائل إخوتي وزيارة أخي "ريجينالد"، وكلها تدعوني إلى اعتناق دين الإسلام، كما اعتنقوه على يد "ألايجا محمد" (رسول الله في نظرهم). واقتنعت معهم أن الإنسان الأسود لم يستفد من المسيحية غير كراهية سواده ونفسه، وتبجيل كل ما هو أبيض.
حينما توصلت بجواب من "ألايجا محمد" على رسالتي الركيكة اهتزت أعماقي بشدة. مما قاله لي: "إن السجين الأسود رمز إجرام المجتمع الأبيض، الذي يبقي السود تحت القمع والفقر".
بعد تمرن مضن على الصلاة، بطلب من إخوتي، انقطعت للعبادة، طيلة السنوات اللاحقة، في سجن "نورفولك" فـ"ملأت علي وقتي، كما لم يملأه شيء آخر". بعد توطد إيماني صرت أراسل معارفي من المجرمين والمقامرين السود، أدعوهم لدين السود الحقيقي؛ كما راسلت الرئيس ترومان وعمدة نيويورك، دون التوصل بجواب.
مع الصلاة ركزت على إتقان اللغة الانجليزية، فقمت بنسخ يدوي للمعجم كله، حتى تعْلقَ الألفاظ بذهني، وكذلك كان.
غادرت السجن سنة 1952، بعد أن صوتَتْ لجنةُ العفو لصالحي؛ غادرته إلى "ديترويت" لأبدأ حياة جديدة.
ساعدني اشتغالي في متجر للسود على الاختلاط بالمسلمين منهم؛ وبهذا صرتُ أعيش واقع الإسلام الرائع، وواقع جماعة المسلمين التي نظَّمتها تعاليمُ هذا الدين الرائع خير تنظيم. أما صلواتي في المسجد فقد مكَّنتني من التعمق في تعاليم ألايجا محمد، كما كنت أستمع إليها في دروس الإمام.
كان يزعجني كثيرا أن يظل المسجد فارغا، والسود في الجوار يتصايحون ويتبادلون السباب.
وحلت أخيرا فرصة اللقاء بـ "رسول الله" -هكذا يعتبره أتباعه- ألايجا محمد؛ كان ذلك في مسجد شيكاغو، وكان لمنظره وقع كبير في نفسي.
تساءلت كيف يراسلْ مثل هذا النوراني سجينًا مثلي، وينتشله من عذاب السجن؟ وعمت القشعريرة جسدي وهو يوجه أنظار الحاضرين صوبي ويقول: سيقول الشيطان إن السجن هو الذي دفع مالكولم إلى الإسلام؛ أمَا وقد أصبح حرا، فسيعود إلى خمره ومخدراته وتدخينه وإجرامه. "لقد زال السياج يا مالكوم فلننظر ماذا ستصنع.
"لقد أمدني الله سبحانه وتعالى بعونه، فبقيت مخلصا للإسلام.. حتى عندما ساءت العلاقة بيني وبين ألايجا محمد، قلت له والأزمة على أشدها: "إنني رغم كل شيء، ما أزال أثق فيه أكثر مما يثق هو في نفسه"
وصرت "رجل الدين مالكوم إكس" كما ورد في بطاقة عضويتي بـ"جماعة أمة الإسلام". صرت داعية وخطيبا، أتنقل بين أدغال البارات والمراقص وأندية القمار، التي أعرفها جيدا، ومقر ألايجا محمد مُستنيرا من علمه وتوجيهاته.
ويسر الله لي الحج؛ ضيفا على الدولة السعودية، والملك فيصل:
يتبع...