ينتحر الآلاف يوميا بالعالم، وتتعدد الأسباب وتختلف أساليب الانتحار ، وتتفق جميعها في الشعور بعدم جدوى الحياة ورفض الاستمرار بها، و"نمو" الرفض وسيطرته على الإنسان ليصل لإقدامه على التفكير بإنهاء حياته بيده، وقد يتأخر بالتنفيذ ليس ليعطي نفسه فرصة؛ بل حتى يمتلك القدرة على قتل نفسه؛ وتكون آخر أيام عمره أصعبها وأشدها قسوة وإيلاما له.
منذ أيام، انتحر ممثل هندي شهير، عمره 34 عامًا، وسبب صدمة هائلة ليس بالهند فحسب، ولكن عند الكثيرين ممن يعرفونه؛ فقد كان شابًا ينبض بالحياة، حقق نجاحًا واسعًا في فترة وجيزة، وأصبح من نجوم السينما الهندية، وكان حاضره يبشر بمستقبل جميل ومتميز ولم ينتحر " سوشانت سينغ " بابتلاع جرعات زائدة من أقراص منومة مثلا، ولكنه شنق نفسه وهذا أسلوب "قاس" لإنهاء الحياة، وربما يدل على شدة رغبته بالموت، وعدم ترك أية فرصة لإنقاذه؛ كما يحدث بالطرق الأخرى للانتحار.
ولم يترك أي رسالة، وكأن كتابتها كانت عبئًا إضافيًا لم يتحمله أو ربما ظن ألا أحد سيهتم بانتحاره، خاصة بعد موت والدته وانتحار مديرة أعماله قبل انتحاره بأيام.
يعد "سوشانت" نموذجًا يصعب تكراره لمن يحتفظ "بتراكم"، مسببات الاكتئاب داخله وربما كان شديد الحساسية ويتأثر كثيرًا بما يحدث له ولا يسارع "بتنظيف" عقله وقلبه، وبالتخلص من المخلفات التي يلقيها البعض أو تتسبب بها الأحداث داخلهما.
كان آخر ما كتبه سوشانت على التواصل الاجتماعي نعيه لوالدته؛ " ماضي مشوش يتبخر من قطرات الدموع، أحلام مستمرة ترسم ابتسامة وحياة سريعة تتأرجح بين الاثنين".
لم يكن "سوشانت" مجرد ممثل، فقد درس بكلية الهندسة قبل أن يختار التمثيل، وهو ما يعني أنه كان يحب عمله، ومعروف أن حب العمل والنجاح به من مسببات السعادة ومن "مضادات" الاكتئاب، بل إن أطباء النفس يوصون المكتئب بممارسة عمل يحبه، لينشغل به عما يحزنه وليمنحه الإنجاز الشعور بالرضى عنه نفسه، وهو أوكسجين الصحة النفسية ويحسن من تقديره لذاته وبأنه "قادر" على العمل ويقلل شعوره بقلة الحيلة وبتراجع قدرته على إحداث تأثير إيجابي في حياته.
نهتم بانتحار هذا الممثل، لأنه سابقة لم تحدث من قبل، فلم يدمن المخدرات، ولم تكن لديه ظروف قاسية، ولم يتعرض لخسائر مادية فادحة وغير ذلك من أسباب الانتحار الشائعة.
كما كان شابًا وقد سبقه للانتحار ممثلون من أعمار متقدمة، وكان ذلك مفهومًا وإن كان غير مبرر، فلا شيء يبرر الانتحار، فالحياة "منحة" من الخالق عز وجل ويجب احترامها دوما وبكل الظروف.
ومن حسن الحظ أن الاكتئاب لا يتمكن من أحدٍ فجأة، فلا أحد ينام سعيدًا وراضيًا أو على الأقل لديه الرغبة بتقبل حياته رغم ما يواجهه من أمور لا يحبها، ثم يصحو مكتئبًا، وقبل أن ينتهي اليوم ينتحر، فهناك "مقدمات" للاكتئاب ودرجات مختلفة وأحيانًا "متلاحقة" منه ونشبهها بالنزول من منحدر، فإذا لم "نسارع" بالتنبه فإن الوصول للقاع يكون بأسرع مما نتوقع، وكلما بادرنا بالتماسك وإيقاف النزول كان ذلك أفضل وأقل "جهدًا" من محاولة التماسك عند وسط المنحى.
وقد انتحرت مديرة أعماله بعد اكتشافها خيانة خطيبها، وكان يمكن أن تكتفي بتركه والانتباه لنجاحها المهني، ومنح نفسها "فرصة" للتعافي من صدمتها العاطفية، ولكنها استسلمت "للصدمة" وسمحت لغضبها وحزنها وإحباطها بأن يتحكموا فيها فأنهت حياتها.
ومن المؤكد، أن صدمتها العاطفية كانت لها مقدمات "رفضت" رؤيتها، فالخيانة كالدخان لا يمكن إخفاؤها ولها علامات "واضحة"، ولكن شدة حبها لخطيبها جعلتها ترفض "تصديق" هذه العلامات وخدعت نفسها، فتمادى خطيبها ولم تستطع رؤية ما اختارت تجاهله سابقًا.
لا نقسو عليها ولا على من ينتحر؛ بل نحلل سبب اتخاذه لأصعب قرار، فبعده ستنتهي حياته ولا مجال للحديث عن أي تراجع أو تقليل لخسائر هذا القرار.
نحترم معاناة كل مكتئب بالعالم ولا نقلل منها أبدًا، وكلنا مررنا بفترات قاسية، نال منا الاكتئاب وأنهكنا نفسيًا وجسديًا، فلم ولن ينجو أحد منه، ولكننا نحذر من تجاهل "البدايات" ومن اختيار الاستسلام، فالبعض يراه دليلا على رهافة الحس وعلى صدق المشاعر، وخاصة عند فقدان من نحب بالفراق أو بالموت وكأننا لا يكفينا "وجع" فقدانهم، وإذا بنا نعاقب أنفسنا ونضاعف الألم بأيدينا وبالسماح للاكتئاب "بابتلاع" أعمارنا وإدخالنا نفقه المظلم.
ونفرق بين الحزن الشديد - وهو طبيعي ومفهوم ويحترم عند الفقدان أو عند خسارة صحية أو مادية، متعكم ربي بالخير وحفظكم - وبين فقدان الأمل وتراجع "اليقين" بأن هناك أيامًا جميلة بالمستقبل، فكما عشنا بالماضي بعض الأيام الجيدة ففي المستقبل أيضًا المزيد منها، وألا نسمح للون الأسود بالسيطرة على تفكيرنا وعلى مشاعرنا وطاقاتنا، وبأن يسلب منا القدرة و"الرغبة" على النهوض واستعادة إرادة الحياة ونثرها بدمائنا وخلايانا، وأن نهمس لأنفسنا بحب وباحترام: ما دامت بنا أنفاس سنفعل أفضل ما يمكننا؛ لنحيا بأفضل ما يمكننا بالوقت الحاضر، ولن نقترب من الاكتئاب فهو "كالغول" الذي في الأسطورة يلتهم من يقترب منه.