يشهد عالم اليوم مرحلة من التحولات المقلقة التي تنم بوجود إرهاصات رجعية قد تتحول إلى انقلاب محتمل على القيم الكونية المتراكمة ومقومات العيش المشترك. فموازاة مع التفوق العلمي للغرب، بكشوفاته العلمية والتكنولوجية، ومختبراته المتنوعة للبحث العلمي العمومية والخاصة وتطبيقاته، انبعثت، بشكل مفاجئ واستثنائي، داخل الدول الغربية بشكل عام، والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، انكسارات اجتماعية بفعل عودة النزعات العنصرية إلى الفضاءات العامة والخاصة، وارتكاب جرائم إنسانية متكررة على أساس لون البشرة، والانتماء الجغرافي الأصل، والعقيدة الدينية. فبعد مرور أكثر من ثلاث عقود عن إعلان النظام العالمي الجديد، الذي توج مسار الصراع الإيديولوجي في العالم، ضاق الأفق أمام نخب الدول المتفوقة، التي تحكمت طوال عشرات السنين في التطورات الاقتصادية والسياسية والثقافية بمؤسساتها الدولية ووحداتها الإنتاجية الضخمة، متعددة الجنسيات والعابرة للقارات. لقد تحولت بالفعل طبيعة الأحداث المأساوية التي يعرفها العالم إلى دعوات صريحة لإعطاء الانطلاقة للتداول المسؤول في شأن مقومات مرحلة ما بعد الحداثة، التي أصبح الكل ينعتها اليوم بالفترة الانتقالية الغامضة، التي تتميز بانفصال السياسة والنقابة والجمعية عن الأبعاد الإيديولوجية المحضة، وبنوع من التيه السياسي والتخبط الفكري في مجال مساعي البحث عن إيجاد ارتباطات جديدة ما بين التطورات المعاشة والديمقراطية والتنمية ومقومات العيش المشترك.
لقد مر العالم، بعد الحرب العالمية الأولى وقيام الثورة الروسية، من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والأحداث السياسية والتاريخية التي شهدها القرن الماضي، إلى مرحلة جديدة تميزت بحدثين بارزين يتجلى الأول في قيام الكتلة الشيوعية وباشتداد الحرب الباردة، والثاني بظهور الحركات الإمبريالية وما تسببت فيه من منافسات وصراعات مصلحية ما بين الدول القوية، ونشوب الحرب العالمية الثانية، وتشكيل حركات التحرر الوطنية في دول العالم الثالث. لقد تشكل على إثر هذه التحولات نسق سياسي كوني مغاير لسابقه بتقاطباته المتوازنة، واستمر بتفاعلاته القوية إلى أن تم رسميا الإعلان عن الانتصار الغربي وفشل التطبيق الاشتراكي في كل مكان. إنها نقطة محورية من تاريخ البشرية أعلن من خلالها الطرف المنتصر تفنيد شعار "الاشتراكية الشيوعية" وإيديولوجيتها "التأميمية"، ليحل محلها "الخوصصة" و"العولمة". لقد استوعبت الصين وروسيا، كطرفين تمت خندقتهما في خانة المنهزمين، التحولات الجديدة التي ميزت قضية "الشأن الإنساني" وما تستدعيه من تفكير لإعادة تحديدها وتعريفها لتيسير الاستفادة منها بتراكماتهما الثقافية والحضارية والعلمية، والعودة إلى ميدان المنافسة الاقتصادية والسياسية والثقافية بمنطق جديد ومتجدد.
والحالة هاته، لقد أعطي الانطباع من خلال استحضار منطق تطورات القرن الماضي ومستجدات العقد الأول من القرن الحالي وكأن المسار الغربي بانتصاراته قد حسم مع ويلات ومآسي الماضي العنصرية وتجاوزها بشكل نهائي. لا أحد كان يتوقع عودة الغرب إلى توليد هذه النزعات البالية والصراعات الإثنية والقبائلية والعقائدية في القرن الواحد والعشرين. الكل يتذكر كيف عبرت الخطابات والممارسات التي سادت لعدة عقود عن تجاوز رؤية الأوروبيين الدونية، كمحتلين، التي كانت تصور الهنود الحمر، السكان الأصليون لأمريكا، وكأنهم كائنات منحطة بالوراثة، وأقل منزلة من عموم الأوروبيين. لم يعد الغرب زمن العولمة في الحاجة للعودة إلى ويلات الماضي الأليم بعدما رسخ في الأذهان طي صفحات تاريخ الإبادات والاعتداءات الدامية. إنها الصفحات ذات النفحات الانتهازية التي أطنب روادها في دفوعاتهم لتبرير وشرعنة تجريد السكان الأصليين للأميركتين من إنسانيتهم وارتكاب المجازر الوحشية ضدهم. لقد تجند أجداد رواد العولمة في السابق، بمفكريهم ومثقفيهم، لترسيخ هذا الإدعاء في ذهنية الإنسان الغربي. فبعدما حط كريستوفر كولومبس قدميه على أراضي القارة الأميركية عام 1492ميلادية، تم الترويج من خلال أول كتاب نشر في هذا الشأن عام 1511 ميلادية من طرف الإنجليزي مارجريت هدجن أن الهنود الحمر هم مجرد كائنات خارج الصنف البشري مبررا ذلك بنعتهم بالوحوش التي لا تعقل ولا تفكر وتأكل بعضها، بل إنهم كانوا يأكلون زوجاتهم وأبناءهم. لقد كانت هذه المرجعية العنصرية اللاإنسانية من الركائز التي تم الاستناد عليها لتشجيع حركة الهجرة والاستيطان، وإبادة الهنود الحمر وإزاحتهم ككائنات، تم نعتها ب"الهمج"، لتصنيف وجودها خارج أحداث التاريخ الإنساني، وبالتالي تسهيل عمليات تملك أراضيهم ووضع اليد على ثرواتها.
كما يعتقد اليوم متتبعو الشأن العالمي أن زمن العبودية قد ولى في القارة العجوز والولايات المتحدة الأمريكية. بالنسبة لهم كل ما وقع في هذه الأخيرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، واستمر في الولايات الجنوبية إلى ما بعد الحرب الأهلية وإقرار التعديل الثالث عشر لدستور 1865 ميلادية، قد تحول إلى مرحلة زاخرة بالدروس والعبر الإنسانية التي كانت وراء صدور الميثاق العالمي لحقوق الإنسان. فعلا، بعدما تم إنجاح إيديولوجية إخضاع العمال الذين تم شراؤهم من تجار الرقيق في أفريقيا لاستخدامهم كخدم وعمال في مزارع المستعمرات مقابل إطعام بطونهم، ومرورا بانتشار الرق على نطاق واسع وامتلاك العرق الأبيض، المتفوق والمهيمن، للعرق الأسود، احتل الجدل الأخلاقي في هذا موضوع مكانة بارزة إلى أن أصبح الرق رسميا ظاهرة غير قانونية دستوريا. إنه الحدث التاريخي البارز الذي مكن الأمريكيون من تحقيق نوع من الاندماج الاجتماعي بقيم ثقافية جديدة للعيش المشترك. إنه الاندماج الذي حقق للولايات المتحدة تفوقها الكوني، والذي توج بتصويت الأمريكيين على باراك أوباما كرئيس من أصول إفريقية لدولتهم، لتتوج فترة رئاسته بفوزه بجائزة نوبل للسلام سنة 2009.
وعليه، واستحضارا للتطورات التاريخية أعلاه، ونتيجة لما عبر عنه المجتمع الأمريكي اليوم، بيضا وسودا، من مواقف إنسانية مشرفة ومناوئة للعنصرية، لا يمكن اعتبار التنديد الشعبي بحدثي اغتيال المواطنين الأمريكيين من الأصول الإفريقية إلا علامة عن نشوب مقاومة رافضة للتوجهات الشعبوية الجديدة. لقد اجتاحت موجات عديدة وواسعة من الاحتجاجات الجماهيرية جل المدن الأمريكية والأوروبية، معبرة عن حاجتها إلى مرحلة ربيع جديدة، تقدمية في طبيعتها، ولا تترك أي هامش للرجوع إلى الوراء. إنها الدعوات التي تنادي بصوت عال بالحاجة إلى التفكير العميق لتحديد السمات الإنسانية الكفيلة بإرجاع قطار الغرب وسمعته إلى سكة منافسة القطب الصيني-الروسي الذي يزداد قوة يوما بعد يوم على المستوى الكوني.