في خضم حالة الاستنفار التي عرفها العالم أثناء ذروة انتشار جائحة «كورونا»، لاحظنا أن تلك الحالة لم تمنع، رغم الصعوبات والصراعات الحادة الظاهرة والمسكوت عنها، من ظهور خطاب مختلف النبرة والرؤية يمكن القول إن زعيمه شبه الأوحد هو الفرنسي البروفسور راوولت الذي حاول خصومه ومن يهدد مصالحهم في البداية التعتيم على خطابه والاستخفاف به، ولكن اختلاف الخطاب ونضاليته الواضحة وانتصاره للمريض من دون سواه جعلت كل محاولات التعتيم تفشل، وتصدّر راوولت صحف العالم وتلفزيوناته وهرع النّاس يستمعون إلى خطابه بجدية وتفاعل إيجابي.
لقد تميّز خطاب الطبيب راوولت بالإحراج؛ كان محرجاً للنّخبة الطّبيّة العلمية بما طرحه من أسئلة خلقت بدورها ردود فعل عنيفة ضده. وفي مقابل هذا الإحراج فإنه نجح إلى حد كبير في نزع القداسة واليقينية عن مسلّمات كثيرة. يمكن القول إن راوولت بأسئلة تبدو بسيطة جداً في ظاهرها أعاد للفكر جذوة الشك. ذلك أن التساؤل عن سبب تمكن فيروس «كورونا» من الدول الغنية أكثر من الفقيرة هو فعلاً في محلّه، إضافة إلى أنه سؤال يجر وراءه مئات من الأسئلة التي لم تطرح بعد، وجدير بالعقل البشري طرحها والتفكير فيها. فالطبيب راوولت وضع التطور والقوة والتقدم في موضع الشك والريبة وخلع عنها كل قراءة يقينية ثابتة. وهنا نتذكر ما قام به أعلام مدرسة فرنكفورت عندما أشهروا النقد في وجه الرأسمالية ومنتجات الحداثة وفكرها. ويحسب لهم الريادة في تناول مفاهيم على غرار التسليع والصناعة الثقافية والإنسان ذي البعد الواحد وخداع الجماهير...
وفي الحقيقة فإن زلزال «كورونا» في بُعد من أبعاده كأن مسار العقل البشري أراده حدثاً يقودنا لوضع كل أجوبة القرنين الأخيرين أمام المحك. لذلك فإن الجدل الذي خلقه راوولت في ظاهره يتصل بعقار الكلوروكين ومدى نجاحه وخلوه من الآثار الجانبية الوخيمة، ولكن ما وراء الكلوروكين هو هدم ما بنته الحداثة من مسلّمات فرضتها القوة ومنطق موازين القوى، وليس مصداقية المسلّمات وفعلها الإيجابي النافع للإنسانية جمعاء.
وفي هذا السياق كأن بالبروفسور راوولت يتقاطع مع عالِم الاجتماع إميل دوركايم في القاعدة الأولى الدوركايمية في معالجة الظواهر الاجتماعية معالجة علمية وتتمثل في التّحرر من كل فكرة سابقة. ويصف هذه القاعدة بأنّها الأساس لكل طريقة علميّة. وللعلم فإن هذه القاعدة تتماهى مع طريقة الشك المنهجي لدى روني ديكارت وأيضاً نظرية الأصنام لبيكون.
طبعاً هناك مفكرون أسهموا بقوة في صنع فكر يقيني على رأسهم فرانسيس فوكوياما الذي بشر الإنسانية بنهاية التاريخ، بمعنى أن أرقى وأهم ما يمكن بلوغه هو النظام الرأسمالي الليبيرالي الديمقراطي مع ما يعنيه ذلك من لجم حقيقي للفكر وكبح لجماحه.
قام البروفسور راوولت بشيء من رتق لعلاقة الطبيب بالمريض من خلال إعادة طرح وظيفة الطبيب الحقيقية والمثالية التي جعلت أجيالاً تحلم بأن تمارس هذه المهنة التي ظلت في التّمثلات نبيلة وإنسانية ولكن في الواقع أصبحت سوقاً شرسة لا ترحم المريض.
ربما من النقاط التي تحسب لراوولت أن ما كنا نعتقد أنه مؤامرة وأكاذيب لا دليل يثبتها بالنسبة إلى ما يروّج من سنوات طويلة عن عالم شركات الدواء قد فضحه هذا الطبيب من خلال ما تمخض عن الخلاف حول استعمال الكلوروكين من عدمه من توتر وعنف وتكشير عن الأنياب.
وهنا نستحضر أيضاً معارك شركات الأدوية من قطاع الطّب البديل والمتخصصين في الأعشاب الرافضين لفكرة المرض المزمن من أصلها والذين يرون أن الدواء الذي تقدمه شركات الأدوية هو الذي يحول المريض إلى صاحب مرض مزمن من خلال خلق تبعية بين المريض والدواء لا هدف لها غير استقرار حالة المريض وليس معالجته وجعله يبلغ الشفاء.
الفكرة المركزية لوظيفة الطبيب والدواء تم ضربها في مقتل وفي الصميم؛ فكرة العلاج ليست صالحة من وجهة نظر رأسمالية، حيث الشفاء يعني التوقف عن شراء الدواء واستشارة الطبيب، وهذا يعني انحسار الربح وعدم تراكم الأرباح.
وبما أن هذا الموضوع الخطير الذي كان مسكوتاً عنه قد انكشف، للعلن فإن الخطاب النقدي التشكيكي أصبح لدى البعض يسمي عالم شركات الأدوية المافيا، ممّا يفيد بأن الرأسمالية في نقطة قصوى من التوحش قد أبدعت في إنتاج باقات من المافيا وليست مافيا السلاح بأكثر رعب من مافيا الأدوية.
ويتقاطع أيضاً ما لمح إليه راوولت تلميحاً وتصريحاً أيضاً مع ما أعلنه الفائز بجائزة نوبل للطب البريطاني جون روبار عام 1993 قبل أيام من أفكار تصب في التهم الخطيرة الموجهة لشركات الأدوية الكبرى المسيطرة على العالم، حيث قال حرفياً إن معالجة المرضى وشفاءهم ليسا مربحين بالنسبة إلى الصناعة الصيدلانية، منتقداً إيثار المصالح الاقتصادية على صحة النّاس.
ولعل الفكرة المهمة جداً التي أثارها الطبيب العالم جون روبار أن ظاهرة جشع شركات الأدوية وهوسها بالربح على حساب التعلق بفكرة شفاء المريض والانتصار على الأمراض تمثل عائقاً حقيقياً أمام التطور العلمي في مجال الطب.
وهنا نتساءل: لماذا ظلت الأمراض السرطانية مستعصية على الأطباء والعلماء، وما هي صلة حالة العجز أمام هذه الأمراض القاتلة بالسوق المربحة جداً أدوية وعمليات وحصص علاج... ذلك أن اكتشاف العلاج للأمراض السرطانية يعني إفلاس كبرى شركات الأدوية وتراجع أرباح المصحات.
إن المريض سلعة يحتكم إلى قوانين السوق: دعه يمرض ولا تدعه يشف.