يعيش العالم الغربي هذه الأيام نقاشا عميقا ومثيرا حول الذاكرة وثقوبها التي مازالت تنزف جراحا وآلاما. فقد فرض الشارع منطقا آخر للتناول بعيدا عن سفسطة النخبة وقراءاتها وتبريراتها المشروطة. فالمنظومة الغربية التي بنيت على قدسية الدولة القطرية وصنعت لها قيما حضارية إنسانية تؤطرها مازالت تحمل في ثناياها آلام الماضي القريب والبعيد. فشوارع باريس ولندن وواشنطن وبروكسيل....تشهد في هذه الأيام ثورة على الذاكرة المفروضة على الأجيال المتلاحقة واختلالاتها التي طبعت التاريخ الغربي بعنفها وجبروتها وصنعت لأعلامها تماثيل يقدمون للمتلقي الجديد باعتبارهم رموزا صنعوا التاريخ المجيد. لكن الاحتجاجات الأخيرة ضد التمييز العنصري أحيت فكرة بناء تاريخ مؤنسن من خلال محاسبة المتسببين في مآسي الماضي واليوم بل ومحو آثارهم من الواقع قبل الذاكرة. فكريستوف كولومبوس الذي قدم لنا على أنه رائد أكبر فتح في تاريخ الإنسانية من خلال اكتشاف أمريكا تحول إلى رمز للعنف واحراق جثث سكان أمريكا الأصليين. وتشرشل الذي صور لنا في الإعلام والتاريخ على أنه محرر بريطانيا ورمز صمودها ضد النازية غدا الآن رمزا عنصريا . وجول فيري، مؤسس المدرسة اللائكية الذي جعل منه أحد صناع المجد الفرنسي، هو في الحقيقة رمز من رموز الاستعمار في مدغشقر وتونس وأفريقيا السوداء... هي صفحة سوداء من تاريخ الإنسانية يحاول الشارع الغربي تغييرها وإعادة البوصلة نحو قيم الإنسانية المثلى بعد أن فشلت النخبة الأكاديمية مرارا في القيام بالأمر.
فليست المرة الأولى التي يتحرك فيها المجتمع ضد النخبة المتسيدة في الغرب من أجل إصلاح التاريخ الذي كرس التمييز والاستبداد مغلفا بالقيم الكونية والعقلانية والديمقراطية. فمنذ ظهور الدراسات ما بعد الكولونيالية (مع اختلاف في التصور بين الدراسات الأنجلوسكسونانية والإيبرية حول الموضوع) بدأت محاولات تحرير الأكاديمي من الاستعماري. فالعديد من رموز الفكر والثقافة والفلسفة كفولتير وديكارت وكانط الذين قدموا باعتبارهم رموزا للتنوير والعقلانية كانوا مشروطين بسياق استعماري حيث كتبت أعمالهم ودونت إبداعاتهم ووقائع حياتهم. وقد سبق لاتحاد الطلبة بجامعة لندن الدعوة إلى استبعاد دراسة العديد منهم وجعل أعمالهم إرثا تأسيسيا وإبستمولوجيا للكولونيالية بغية تحرير المؤسسة الأكاديمية من الاستعمار المعرفي. كما كانت العديد من العلوم محور مساءلة حول الغايات الثاوية وراء الانشغال بها. فالترجمة مثلا كما كانت وسيلة تواصل كانت وسيلة لتثبيت الاستعمار. واللسانيات أخذت دورا رئيسا في المسار.
والقائمة طويلة. لكن هذا النقاش النخبوي لم يصل إلى الشارع ويغدو قضية رأي عام إلا في الحالة الراهنة. ما الذي تغير إذن؟ المتغير الوحيد هو أن الشارع هو الذي يقود عملية الإصلاح والنخبة تبع لذلك أو رجع صدى لما يعتمل داخله. لذا تشهد المنتديات الإعلامية والأكاديمية نقاشا محموما حول العديد من الرموز التي تؤثثت الفضاء العام في المدن والجامعات. فرنسا ليست استثناء. فبالرغم من تصدر العديد من المؤرخين، أمثال باسكال بلانشار، للدعوة إلى الحفاظ على هذه الرموز التجسيمية في الشوارع والساحات، بحكم ما سماه بالتأخر في مقاربة الزمن الاستعماري، فإن غضب الشارع ضد هذا التقدير لنتوءات الماضي يعيد الأمل في أنسنة الغرب وعودته إلى حقيقته الإنسانية واستعادة وعيه الإنساني المفقود نتيجة عمليات غسيل المخ التي تعرض لها على مدى عقود من قبل وسائل الإعلام وتمجيد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتغني بها ورفعها شعارا براقا وعظمة الرجل الأبيض صانع الحضارة الحديثة.
ومازال المغاربة، ومعهم الشعوب العربية، متأخرين في معالجة نتوءات الماضي. فالموجة العالمية التي انطلقت من أمريكا مازالت تتعثر في الوصول إلى العقل المتسيد في المغرب الذي "اختار" المصالحة مع ماضيه الاستعماري واستعادته تدبيريا وسياسيا. فالاغتيالات والمجازر والتعذيب الذي عانى منه المغاربة طيلة عقود، وما شهدته منطقة الريف وقبائل زيان وبني خيران والسماعلة وقصبة تادلة والقصبة الزيدانية والبروج وخنيفرة... لم يعد له مكان إلا في فقرات متناثرة داخل كتب التاريخ إن وجدت لها مكانا، أو في مناسبات وطنية محدودة التأثير والانتشار. في حين مازالت أسماء المستعمر الفرنسي وقواده الذي قتلوا وشردوا ونظروا أمثال ليوطي المقيم العام ولویس ماسینیون المنظر الاستعماري المشهور وغيرهما تجثم على فضائنا العام وعلى مدننا وأزقتنا وثانوياتنا. لكن التجربة العالمية أثبتت أن الشعوب لا تنسى. وعندما يقرر المغاربة تغيير واقعهم فسيغيرون التاريخ ويقطعون مع الزمن الاستعماري ذاكرة وواقعا.