ما من شك في أن الظرفية التي توجد فيها الحكومة حاليــا ظرفية جد صعبة بكل المقاييس، حتى ليمكننا استعمال القول الدارج "الله يحسن لعوان" في توصيف وضعها الحالي، باعتبار الإكراهات الكثيرة التي فرضها "زمن كورونا" وواقع الجفاف الذي يضرب البلاد هذه السنة.
هذه الصعوبة جعلت فريق العثماني يفكر في "سيناريو الإنقاذ"، في الخطة التي بإمكانها تجنيب المغرب "السيناريو الأسوأ"، أكثر مما جعلته يهتم بمنطق "تجويد الحصيلة"، والانتقال إلى السرعة القصوى في الأداء، اعتبارا للوقت القصير المتبقي من عمر هذه الحكومة، حيث في الغالب ما تحرص الحكومات على استثمار هذا الوقت أحسن استثمار من حيث محاولتها إخراج أفضل ما عندها من أدوات وأوراق تدبيرية، أملا في ترك انطباعات إيجابية على أدائها لدى رجل الشارع في فترة "ما قبل انتخابية" قد تشفع لها في موسم التصويت والاقتراع.
مع هذا الفيروس اللعين، تم عكس المعادلة، حيث "الحساب" لم يعد منصبا حول ما أنجزته الحكومة بالمقارنة مع ما اقترحته من برامج، بقدر ما اتجه نحو ما تم اقتراحه عمليا من مبادرات لتجنيب البلد تبعات هذه الجائحة، تدبير جيد قد يرفع درجات صاحبه أو صاحبته، كما حصل مع ميركل ألمانيا التي كانت في "النازل" وأصبحت في "الطالع"، أو مع رئيس وزراء إيطاليا الذي يعيش في هذه الفترة أياما عصيبة جراء سوء تقديره للجائحة وعدم أخذه الاحتياطات اللازمة، فعصفت كورونا بأحلامه وربما بكل أحلام حزبه.
في المغرب، وإنصافا للرجل، ربما تقتضي الموضوعية القول إن السيد العثماني قد سارع للقيام بجزء من المتعين، من حيث كون البلد كان سباقا لاتخاذ العديد من الإجراءات الاحترازية من قبيل: الحجر الصحي، حالة الطوارئ، إنشاء لجنة اليقظة الاقتصادية، صندوق مواجهة الجائحة، إقرار لجنة التواصل حول تطور الوباء... الإشكال أنه مع توالي الأيام، هذه الإجراءات الاحترازية وعلى أهميتها قد بدأت تكشف على محدوديتها، لكونها وبكل بساطة قد أعلت من قيمة الجانب الصحي (على أهميته) على حساب مجمل جوانب حياة الناس ومعاشهم، وخصوصا الاهتمام بالبعد الاقتصادي للبلد.
من جهة أخرى، وعلاقة بهذا البعد الاقتصادي، ضمن الأشياء الكبيرة التي "ضربتها" هذه الجائحة، الأسس والمنطلقات التي تم البناء وتأسيس القانون المالي عليها لهذه السنة، هذا التغيير أثر سلبا على بنية البيانات التي تم اعتمادها في هذا القانون، سواء من ناحية المداخيل أو النفقات، نتيجة لذلك بدأت الدولة تستخلص أقل وتنفق أكثر، كما التجأت إلى الديون، واستيراد القمح بكميات كبيرة بفعل الجفاف، وتأثرت تحويلات الجالية المغربية بالخارج، وكذا السياحة، وبعض الصادرات المغربية كالسيارات، وكذا التحصيل الضريبي... في المجمل مجموع المقومات الأساسية التي كانت تراهن عليها الحكومة لتحقيق نسبة نمو في حدود 3,5 في المائة، ونسبة عجز في حدود 3 في المائة، قد طرأ عليها تغيير كبير.
بفعل هذه التغيرات ومن أجل الاستجابة لمتطلبات المرحلة، اهتدت الحكومة إلى اتباع "خطة عمل براغماتية" تقضي بإعداد مشروع قانون مالية تعديلي، يأخذ بعين الاعتبار مجموع التغيرات سالفة الذكر، ويتم العمل على تحيينها بالشكل الذي يصبح فيه "هيكل وثيقة القانون المالي" يتحدث عن أرقام تقريبية، مستوحاة من "زمن كورونا"، وليس عن أرقام فضفاضة عصفت بها الجائحة.
الأمر نفسه حصل فيما يخص الأولويات، حيث حاولت الحكومة "استثمار لحظة التعديل" لإعطاء بعض الإشارات الدالة فيما يخص مجموع الدروس التي تم استخلاصها من الزمن القاسي لكورونا في نوع من الاستجابة "للمطالب الشعبية" على بعض الأولويات التي تم الإجماع حولها من قبيل الصحة والتعليم، والحماية الاجتماعية.
التعديل أيضا سيبرز قدرات الحكومة "وحنة يدها" فيما يخص طريقة تعاملها مع أبواب هذا القانون، وكيف ستتمكن من المزاوجة "بين ندرة المال" و"الإنعاش الاقتصادي" الذي تنادي به، وكل التخوف ألا يكون هذا الأخير سوى شعار تخفي من ورائه الحكومة "سيناريو التقشف" الذي لم تقدر على المجاهرة به، حتى لا تضيف ببنود هذا القانون جرعات إضافية من القسوة المسجلة مع كورونا.
الحقيقة أن لجوء بعض الحكومات إلى هكذا إجراء تعديلي في قانون المالية هو شيء إيجابي؛ إذ من شأنه أن يعطي مشروعية قانونية لمجموع الإجراءات التي تعتزم الحكومة القيام بها، وقد لا تكون محتاجة لمعاودة استصدار بعض القوانين أو مراسيم استثنائية، كما سيمكن هذا القانون من التعبير بلغة واضحة وشفافة عن المداخيل وعن النفقات، ويعطي كذلك قيمة للبيانات المتضمنة في نص هذا القانون، هذه البيانات التي نعرف جميعا أنها قد أصبحت تدار ببرامج وتطبيقات معلوماتية لا يمكنها أن تؤدي حقيقة وظائفها ما لم يتم تحيينها بالمعلومات الصحيحة، وقد أصبح لها بعض الأدوار الهامة فيما يخص تسريع الحصول على المعلومة المالية، وتعزيز المناحي المرتبطة بالمراقبة، علاوة على تمكين القطاع من التوفر على نظام يساعد في القيادة والتتبع.
ربما انتهى الزمن الذي كان ينظر فيه إلى نسخ "قوانين المالية المعدلة" بمنظور سلبي كما لو أن الدولة قد رضخت لضغوطات معينة وكانت تعطي "بتلكم النسخ" إشارات لتطمين الرأي العام. بعد الربيع العربي، وفي زمن وفرة المعلومات ومع التطور الذي تعرفه التكنولوجيات الحديثة، يبدو أن التفاعل مع هكذا قوانين بالتعديل يتعين أن يترسخ في السلوك ويصبح نمطا في التدبير يتم بشكل مرن وسلس، لأنه يتعامل بشكل تفاعلي مع مستجدات الواقع؛ إذ لا يعقل أن يتم التدبير بموجب فرضيات وأولويات "قديمة" ما دام الواقع الحالي قد أفرز معطيات جديدة يتعين دمجها على وجه السرعة والاستعجال، وهو ما يدعو أيضا إلى تطوير أنظمة المحاكاة والتوقعات والتخطيط باعتبارها وسائل وآليات عمل ولكون ثمارها في بعض الأحيان قد لا تقدر بثمن على الصعيدين التدبيري والمالي...
ربما النقاش حول القانون المالي التعديلي قد أتاح للبلد مرة أخرى فرصة التأكيد على الأهمية البالغة التي يكتسيها "المغرب الرقمي" بمختلف أبعاده وجوانبه حتى لا تبقى الرقمنة مجرد خدمات توفر عن بعد فقط، بقدر ما أن مكوناتها من المفترض أن تدخل في عمق العملية التدبيرية لهياكل الدولة ومؤسساتها.