لقد كانت الجريمة وما تزال ظاهرة مجتمعية سلبية، ومأخذ سلوكي عنيف، تروم فيه طباع الجناة إلى سلب المجتمعات أمنها واستقراراها، وبث الفوضى في أرجائها وأركانها، وتهديد الأفراد في أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم، وفوق ذلك تزداد حدة الجريمة وتغلو في قسوتها كلما غاب حزم الدول للتصدي لها، وكلما افتقدت أنظمتها لأجهزة أمنية مؤهلة، أو لافتقارها لقوانين واضحة وفعالة.
لهذا، تتجلى غايات القوانين الجنائية ومقاصدها الكلية بقسميها القوانين الموضوعية والإجرائية، في الحد من السلوكات الإجرامية، وضبط مقترفيها، وتقديمهم إلى العدالة من أجل اقتضاء حق الهيئة الاجتماعية في العقاب والإيلام، من غير محاباة أو مواربة.
ولقد تناول المشرع المغربي تعريف الجريمة وحدد معناها من خلال المفهوم الذي أورده في الفصل 110 من القانون الجنائي من كونها كل عمل أو امتناع مخالف للقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه، وأقرنها بمبدأ الشرعية الجنائية المشار إليه في الفصل الأول من نفس القانون في باب المبادئ العامة، والذي يجري سياقه الحرفي كما يلي (يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان التي يعدها جرائم، بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي، ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو بتدابير وقائية).
فالجريمة، بالرغم من اختلاف تعريفها من تشريع للأخر، فإن التوافق حاصل بالتأكيد على عوارضها ومخلفاتها، وتأزيمها لثقة المواطن في أداء أجهزة العدالة الجنائية، وفي سلطة القضاء الزجري، لذلك فإن تعامل القانون مع هذه المخالفات كان يقوم في بدئه على تخريج عقوبات بدنية تمس جسد الإنسان – كعقوبة جرائم القصاص المقررة في الأديان السماوية – تطورت لاحقا مع تطور الفكر الإنساني وطلوع المطالب الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان، إلى عقوبات سالبة للحرية تنتهي بإيداع المدانين في مؤسسات سجنية، أو إنهاء حياة من تقرر في حقه جزاء الإعدام.
والملفت للانتباه في نتائج العقوبات المقيدة للحرية، أنها وإن كانت تشير على نظامها الفعال، وإسهامها المثمر في شل الأنشطة الإجرامية، بفعل الممانعة المفروضة على السجناء، والانضباط المقرر إزاء الأنظمة الداخلية للمراكز السجينة، فإنها – أي هذه النتائج – لم تساهم في التخفيف والحد من أزمة التضخم الجنائي، إن على مستوى عدد الأشخاص المحالين على العدالة، أو عدد المدانين المودعين بالمؤسسات العقابية، خاصة في الجرائم البسيطة ذات التأثير المحدود، ولعل هذه الصعوبة هي التي تسقط عن ميزان العدالة قسطاطه، وتزاير القاضي حسده القضائي، وبراعته القانونية، في مقارنة كل جريمة مع عقوبتها المناسبة في نظر القانون، والمقبولة في نظر الضحايا والمجاوزين للنص الجنائي.
لذلك، وانطلاقا من الخلاصات التي تنقضي بها الإجراءات الجنائية في التشريعات المعتمدة لمذهب العقوبات السالبة للحرية في عموم الجرائم، دفاعا منها عن الحق العام l’intérêt général، وامتثالا لالتزامها الذي يفرضه العقد الاجتماعي، فقد برزت الحاجة إلى تعديل القوانين الزجرية بما يفتح المجال لأطراف الخصومة الجنائية في إنهاء ادعاءاتهم بصلح تنقضي به الدعوى العمومية، أو تنازل تسقط به الدعوى الجزائية، وهو ما يصلح عليه في القوانين الجنائية الحديثة بآليات العدالة التصالحية.
وتعرف العدالة التصالحية la justice transitionnelle تبعا لهذا التصور المعرفي، مجموعة من الحلول الرضائية والتوافقية لإنهاء الخصومة الجنائية، تحت إشراف قضائي، ورقابة لاحقة للمحكمة المختصة، لأجل مواكبة مآل تنفيذ التعهدات والاتفاقات التي شكلت أساس إعمال هذه التدابير، سواء أارتبطت هذه الاتفاقات بشرط أداء مقابل معين، أو إنجازها على نحو مجرد ومحرر من أي قيد.
وعلى هذا الأساس، فإن القاضي وهو ينظر في الدعوى العمومية، وقاضي النيابة العامة وهو يمعن في دراسة المسطرة المحالة عليه، قد يتضح عنده أن الضرر المترتب عن الجريمة، تتقاسم إمكانية إصلاحه كل من العدالة الجنائية (جرائم الحق العام)، والعدالة التصالحية (التراجع عن حق مباشرة الدعوى الجنائية)، وهنا يرتفع ميزان القضاء في توجيه الاتهام وتحكيم القانون، أو تفعيل بدائله الممكنة، الساعية إلى جبر الأضرار وترسيخ معالم الصلح وإذكاء التسامح بين الغرماء، والتسامح جزء من العدالة حسب جوزف جوبير.
هذا، وإن التساؤل الذي نطرحه في هذا السياق يتلخص في مدى توفق المشرع المغربي في ضبط التلازم بين الدفاع عن الحق العام في مواجهة الجريمة، وبين تحقيق العدالة التصالحية في صيغها المحددة؟ وهل يتهدد مركز الحق العام ويتهاوى سبيله في طلب تطبيق العقاب، أمام إحجام سلطة الاتهام عن تحريك المتابعة، كلما اختار الأطراف إنهاء الخصومة الجنائية بشكل توافقي؟
لا بد قبل الشروع في رصد مظاهر الافتراقات والالتقاءات بين حق المجتمع في اقتضاء الحق العام، ومطمح السياسة الجنائية المعاصرة في تحقيقها للعدالة الرضائية، أن نعرج على فحص نظامنا القانوني، وذلك بالبحث عن أدواته الممكنة للتصالح والتفاوض في الميدان الزجري، والوقوف على الدور الرقابي للسلطة القضائية، وكيفية متابعتها لسير هذه الإجراءات.
إن المتأمل في النظام القانوني المغربي وفي نصوصه المتفرقة، سيحضره أن المشرع قد اعتنى بتنظيم الوسائل الحبية لفض النزاع، بحيث خصص لها عدة مقتضيات همت مختلف المواد القانونية، فمثلا قانون الالتزامات والعقود الصادر سنة 1913 تضمن أحكاما بشأن عقد الصلح (الفصول 1098-1116)، والقانون رقم 05.08 المتمم لقانون المسطرة المدنية أطر بإسهاب كل من الوساطة التحكيم، وقانون إحداث المحاكم التجارية أحال على هذا القانون الأخير عند اتجاه رغبة أطراف المنازعة التجارية إلى حل خلافهم بعيدا عن قضاء الدولة، وأيضا مقتضيات الصلح في قضايا الأسرة، والتحكيم والصلح في نزاعات الشغل، وهكذا في كل فروع القانون الخاص والعام.
غير أن ما يستدعي إثارته من ملاحظات عن هذا التنظيم القانوني، أن مدخل تفعيل هذه البدائل، ومنطلق مزاولتها، يشترط عدم ارتباط موضوعاتها بالنظام العام، وما يتصل به من مصالح، ذلك أن مشتملات النظام العام تستعصي وتمانع من أن تشغل موضوعا للصلح أو التفاوض، بمعنى أن الحقوق غير المصنفة ضمن محددات النظام العام، هي التي تقبل التصالح أو الوساطة بشأنها، لأنها لا تمثل سوى مصالح خاصة والقاعدة تقضي بأن من ملك حقا فقد ملك حق التنازل عليه، وبالقياس فقد ملك حق تحكيم الغير في حله، وقبول مقترحه في الصلح، وما دونها من حقوق تنزوي عن هذه الأبعاد وتظل ضمن كنه الحق العام.
ولئن كان حقا هذا التوصيف هو الذي يفرق بين منثورات النظام العام، ويميزها عن المصالح الفردية، الخاضعة لمبدأ سلطان الإرادة، وقواعد الحقوق الخاصة، فإن الاتهام الجنائي قد ظل صامدا ومناصرا لفكرة الذود عن الحق العام، مستقلا بوظيفة الدفاع عن مصالحه أمام القضاء، ومسايرا لمقصود الحماية الجنائية باعتبارها أقصى مراتب الحماية التي يعنيها المشرع، وهكذا نستنتج أن التصالح في الجرائم يحول دون تحديد التهمة وتوجيه الاتهام، وكأن الهيئة الاجتماعية تتنازل عن حقها في العقاب وهو حق عام يقود إلى إدراك مصلحة عامة – كالأمن والاستقرار – في مقابل عقد صلح ينشأ بعد قيام حق الادعاء العام في إثارة الخصومة الجنائية، توخيا لتحقيق مصلحة خاصة.
لذلك فإن البين أن المشرع قد اختار إدراج آليات العدالة التصالحية في الميدان الزجري، إيمانا منه بضرورة إرساء التوازن المطلوب، وتمكين القضاء من تقدير الوقائع الجديرة بالتصالح من عدمها، وأضفى على هذه الوسائل طابعا اختياريا، بحيث لا تجبر النيابة العامة على سلوكها ومباشرتها وإن اتفق الأطراف عليها.
وتفاديا للنقائص والثغرات التي سجلت على ظهير الإجراءات الانتقالية، وعلى التعديلات اللاحقة به، من إغفالها إضفاء المرونة على سير مساطر الصلح والوساطة، وتجاوزها لحق الأطراف في اللجوء إلى الصلح في الجرائم اليسيرة، فقد تضمن قانون المسطرة الجنائية الحالي التنصيص على تفعيل الصلح في جرائم محددة، واعتبر هذا الصلح مسقطا للدعوى العمومية حسبما أكدته المادة 41 منه، علاوة على نصوص جنائية خاصة نصت صراحة بجواز المصالحة، كالقانون المتعلق بالمحافظة على الغابات في المادة 74، والقانون المنظم للصيد البحري في المادة 22 مكرر، ومدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة بموجب المواد 273 إلى 277، والمادة 53 من القانون المنظم للصيد البحري إلخ...
وقد استهدفت هذه التنصيصات تمكين الضحايا من الوصول إلى حقوقهم عبر تسوية حبية، بما يساهم في رأب الصدع وجبر الأضرار، والحد من النزعة الانتقامية لدى الضحايا، وإشاعة ثقافة العفو، وصون حقوق المتضررين، وصون حقوق المجتمع أيضا.
وبمراجعة نص المادة 41 من ق.م.ج التي تشكل الإطار القانوني للصلح الجنائي، يتضح أن اللجوء إلى الصلح مقيد بعدة شروط قبلية وبعدية، فضلا عن طبيعته الاختيارية، وبناءه المركب الذي يشترك في تكوينه كل من الأطراف ووكيل الملك، لهذا فإن الصيغة التي أسس المشرع بها الصلح، قد احترمت أسبقية الحق العام في المطالبة بتنزيل العقوبة المقررة في القانون، وإن مثلت الجريمة فيها نفس الجرائم المشترطة كحد أقصى لإجراء الصلح.
فالميزان الذي ترجوا العدالة تحقيقه وتدقيقه هو قياس حجم الأثر الناجم عن الجريمة المقترفة، فإن كان محدودا محصورا بين الجاني والمجني عليه، فإنها لا ترى مانعا في اتفاق الأطراف على اقتراح الصلح، فيوافق وكيل الملك على مقترحها، ويصادق رئيس المحكمة على محضرها بأمر قضائي غير قابل للطعن، وإذا بدا للسلطة القضائية – وأعني بها هنا النيابة العامة ومؤسسة رئيس المحكمة – أن الشروط الموضوعية للصلح غير متوفرة، كما لو تعلق الأمر بجناية أو جنحة يتجاوز حدها الأقصى سنتين حبسا، فإنها لا تجيزه ولا تصادق عليه.
والجدير بالملاحظة أن الأسلوب القانوني المتغيى في صياغة الصلح، هو أسلوب قضائي تتداخل فيه النيابة العامة وقضاء الحكم، بحيث لم يترك للأطراف جوازية إبرام الصلح بمعزل عن سلطة القضاء، لأن الصلح الجنحي يعالج جرائم معينة، والجريمة بطبعها تمس بالنظام العام، ومتى ظهر أي تنبيه يروم تهديد النظام العام، إلا وتدخلت سلطة القضاء بالقانون، لصد مختلف أشكال المبالغات الجنائية.
وتباشر مسطرة الصلح ابتداءا بالعرض الذي يتقدم به المتضرر والمشتكى به قبل إقامة الدعوى العمومية، أمام وكيل الملك المختص لتضمينه في محضر، يشار فيه إلى التنازلات المقدمة والتعويضات المتفق عليها، ثم يتخذ قراره إما بالرفض أو القبول، وعند قبوله وموافقته لاقتراح الصلح، يعمل على تحرير محضر في الموضوع، ويحال مباشرة على رئيس المحكمة الابتدائية للتصديق عليه بحضور قاضي النيابة العامة والأطراف ودفاعهما، وذلك بغرفة المشورة.
كما تتطلب مسطرة الصلح بعد موافقة وكيل الملك وفق ما تقدم، تصديق رئيس المحكمة الابتدائية بأمر غير قابل لأي طعن، يتضمن ما ارتضاه الطرفين، خاصة التزام المشتكى به بأدائه لغرامة لا تتجاوز نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة في القانون، وتحديد أجل لتنفيذ الصلح، الأمر الذي يؤكد الحضور الملحوظ والمستمر للقضاء في مسطرة الصلح، وإشرافه المباشر على حسن سير إجراءاته، والتقيد بالتزاماته.
وإذا كان الصلح الزجري يتم بمبادرة من أطرافه – المتضرر والمشتكى به – فإن القانون قد ارتأى صورة مغايرة تقبل إنجاز هذا الصلح ولو لم يظهر متضرر، أو إذا لم يحضر أمام وكيل الملك، إذذاك يمكن لممثل النيابة العامة أن يقترح من تلقاء نفسه على المشتكى به أو المشتبه فيه حسب الأحوال، صلحا يتثمل في أداء نصف الحد الأقصى للغرامة المحكوم بها، أو إصلاح الأضرار التي تسبب فيها، مع تفعيل مسطرة المصادقة الرئاسية، وهو نفس التوجه الذي أخذ به المشرع الفرنسي بموجب تعديله لقانون المسطرة الجنائية الذي سنه بالقانون الصادر بتاريخ 23 يونيو 1999 في المادة 41-2 بحيث يمكن لوكيل الجمهورية أن يقترح مباشرة أو بوساطة شخص مؤهل صلحا جنائيا على شخص معترف بارتكابه لجنحة، وذات المقتضى نهجه قانون الإجراءات الجنائية المصري لسنة 1998 مع اختلاف في الجرائم القابلة للصلح.
ومثلما للصلح المدني من أثار على الدعوى المدنية، في وقف المطالبة بجزء من الادعاءات التي تم التنازل عليها بالتقابل، فإن الأثر المترتب على الصلح الجنائي ينصرف إلى وقف إقامة الدعوى العمومية، بل وتسقط هذه الدعوى عند الوفاء بالالتزامات المتفق عليها وأداء الغرامة القانونية.
ثم إن ميزان العقاب الذي خول القانون للنيابة العامة التحكم في تنصيبه، ورسم معالمه، يمكنها من تقدير جسامة الجريمة ولو تعاقد الأطراق على مبدأ الصلح، إذ لا مانع يمنع النيابة العامة من رفض الصلح، والإنصراف إلى تحريك الدعوى العمومية، والمطالبة بحماية المجتمع من الجريمة، فهنا يتحقق ميزان العدالة ومرادها، ويضاف إليه مرحلة ما بعد التصديق على الصلح، حيث يسوغ للنيابة العامة الحق في مباشرة الدعوى العمومية لعدم تنفيذ الالتزامات المصادق عليها، أو لظهور عناصر جديدة تمس الدعوى العمومية، كاستبيان ظرف من شأنه أن يغير الوصف القانوني للجريمة محور الصلح، فينهض بها من جنحة ضبطية إلى جنحة تأديبية أو حتى إلى جناية، وهذا هو الميزان الذي تنشده العدالة، ويستقوي به الاتهام في طلب إنزال العقاب بالنيابة عن المجتمع.
كما أنه قد يحصل عمليا أن تقيم النيابة العامة الدعوى العمومية في إطار جرائم المادة 41، وتشرع المحكمة في إجراءات البحث والمناقشة، ثم يبادر الطرف المتضرر من الفعل الجرمي إلى التنازل عن شكايته، حينها يحق للنيابة العامة تطبيقا للمادة 372 من قانون المسطرة الجنائية أن تقدم ملتمسا للمحكمة يرمي إلى وقف سير إجراءات الدعوى العمومية، ما لم تكن المحكمة قد بتت فيها بحكم نهائي، وهذه الإمكانية تتطلع فيها النيابة العامة إلى الحفاظ على الروابط العائلية، وتوطيد قيم التسامح وفق ما تستلزمه حاجيات العدالة التصالحية.
وتأكيدا على مرونة الانتقال من تغليب الحق العام إلى ترجيح الحقوق الخاصة للمتضررين، حسب رغبات السياسة الجنائية وتوجهاتها، فإنه يمكن للنيابة العامة بعد تصديقها السابق والتماسها وقف سير الدعوى العمومية، أن تطلب من المحكمة مواصلة النظر في إجراءات المحاكمة، إذا ظهرت عناصر جديدة في الدعوى العمومية، ما لم تكن هذه الأخيرة قد سقطت بالتقادم أو لأي سبب أخر.
ويستشف من مسطرة وقف سير الدعوى العمومية، أن تنازل المتضرر في الجرائم المؤطرة في المادة 41 من ق.م.ج، هو غير التنازل الذي أمضاه عند إبرام الصلح، ذلك أن هذا الصلح يوفر ضمانات أكثر لحقوق الضحية، أولا لأنه صلح ذو طبيعة قضائية، تدخلت السلطة القضائية في الموافقة عليه، ثانيا لأن مضمونه يشمل تحديد أجل لتنفيذ الصلح، وتنفيذ الصلح حسب الفضل 1098 من قانون الالتزامات والعقود يقتضي تنازل كل من الطرفين للأخر عن جزء مما يدعيه لنفسه، أو إعطائه مالا معينا، ولا خلاف أن المال في الصلح يقصد به تعويض المتضرر عن نتائج الضرر اللاحق به.
لهذا، فإن تنازل المتضرر أثناء نظر المحكمة في الدعوى العمومية، قد يكون تنازل تلقائي لم يقع فيه تعويض الضرر، ولا إعطاء أي حق في مقابله، كما يقضي بذلك الصلح في معناه القانوني، ومن هنا نستخلص قاعدة أن كل صلح يتضمن تنازلا، ولكن ليس كل تنازل يتضمن صلحا.
وإذا صح القول أن المشرع المغربي قد أحدث تقنية الصلح الجنائي، إيمانا منه بالأدوار الإيجابية التي تقدمها للعدالة، وعن مكانتها الهامة في نزع الحقد الاجتماعي لدى الضحايا والمتضررين، ووفاءا بالتزاماته الدولية في بلوغ عدالة تصالحية آمنة وإدماجها في القوانين الوطنية (انظر أشغال المؤتمر العاشر لهيئة الأمم المتحدة المنعقد بفيينا سنة 2000)، فإن هذا التنظيم القانوني قد ورد منقوصا ومتجاوزا من عدة جوانب، أهمها إغفال جعل اللجوء إلى الصلح ممكنا بعد صيرورة الحكم نهائيا، وكأن الأفعال الجرمية التي لم تصدر فيها أحكاما نهائية هي التي تلقي بأضرارها وأوزارها على الضحايا ما لم يقضى فيها بشكل نهائي، وإن كانت الأحكام الصادرة في الجرائم الجمركية على سبيل المثال تقبل المصالحة بعد تحريك المتابعة، وبعد البت فيها نهائيا عملا بالمادة 273 وما يليها من مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة.
وكعادة كل التشريعات التي تعمل على ملاحقة التطورات ومسايرة التجديدات الطارئة على قوانينها، فقد تنبه المشرع الإجرائي إلى محدودية آلية الصلح في بنائها الحالي، فحاول تداركها بإضفاء شيء من المرونة على إجراءاتها من خلال مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية، بحيث شملت مقاربته الإصلاحية إجراء مجموعة من التعديلات في مقدمتها الارتقاء بالنيابة العامة إلى قوة اقتراحية، وتصنيفها كجهة مبادرة لعرض التصالح على الأطراف، وتوسيع دائرة الجنح القابلة للصلح لتشمل بعض الجنح التأديبية، التي كشف التطبيق العملي عن محدودية أثارها، وتمديد الصلح إلى مرحلة التحقيق...
وفي الختام نخلص إلى أن الافتراق المسجل والملموس إما وضوحا أو دلالة، بين الدفاع عن الحق العام وإدراك العدالة التصالحية حول ما يرتكب من جرائم يُعلم من طبيعة الضرر الناتج، فإن كان ضررا بليغا جسيما، إلا ووجب تفضيل الحق العام وتقديمه في طلب تطبيق الجزاء المعلوم في القانون، وإذا كان ضررا محدودا بين أطرافه، فلا يضير العدالة في قبول الصلح والتصديق عليه، أما الإلتقاء بين المصلحتين فتحكمه قواعد ميزان العقاب، وفطنة رجل القضاء في تقديره أهمية الجريمة وأبعادها، ثم تحديد موقفه من الصلح إما بالموافقة أو الرفض، وهكذا يقضي في نوع الجزاء الجنائي.
*باحث في العلوم القانونيـة