منذ فرض حالة الطوارئ الصحية في العشرين من شهر مارس الماضي، بادرت السلطات العمومية إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات الوقائية والاحترازية في إطار الحرب ضد وباء كورونا "المستجد" - كوفيد19-، من ضمنها إقرار فرض إلزامية وضع الكمامات الواقيـة بالنسبة لجميع الأشخاص المسموح لهم بالتنقل خارج مقرات سكناهم في الحالات الاستثنائية المقررة، وهو إجراء تم فرضه بناء على قرار مشترك بين وزارات "الداخلية"، "الصحة"، "الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة" و"الصناعة والتجارة والاقتصاد الأخضر والرقمي"، كآلية من آليات الحد من انتشار وتفشي العدوى، وحتى يتسنى توفير الكمامات بالأعداد الكافية، تم الرهان على تعبئـة مجموعة من المصنعين من أجل إنتاج كمامات موجهـة للسـوق الوطني بأثمنة مناسبة في حدود 80 سنتيما، بدعم من صنـدوق تدبير جائحة كورونا، في لحظة مفصلية، اشتدت فيها حرب الكمامات والمستلزمات الطبية في العالم.
ويسجل تفاعل المغاربة مع هذا القرار المشترك، بالتزامهم بوضع الكمامات أثناء تنقلاتهم عند الضرورة القصوى، خارج مقرات سكنهم، بطرق "سليمة" وفق النصائح والتوجيهات الصادرة عن السلطات الصحية، ليس فقط، في إطار الالتزام بسلطة القانون، ولكن أيضا، كتعبير فــردي وجماعي، عن الانخراط في كل التدابيـر الوقائية والاحترازية، الراميـة إلى محاصرة الفيـروس التاجي والحد من انتشار وتفشي العــدوى، لكن في الآن نفــسه، نسجل لجوء البعض إلى وضع "الكمامات" بصيغـة "نص.. نص"، تارة "أسفل الفـم"، وتارة أخرى "على مستوى العنـق" وتارة ثالثة بإعــلان العصيان عليها وعدم الاكتراث لطابعها الوقائي والإلزامي، وهي تصرفات، قد يــرى فيها البعض نوعا من انعدام الوعي الفردي والجماعي، وقد يـرى فيها البعض الآخر نوعا من العبث والتهور والتراخي، وقد يـرى فيها البعض الثالث، مرآة عاكسة لمحدودية وعدم نجاعة الخيـار الزجـري، وكلها تفسيرات لا يمكن إلا تزكيتها، ونضيف إليها، أنها ممارسات "غير مسؤولــة" غارقة في الأنانية المفرطة وانعدام الرؤيـة، تكبـح جمـاح المجهودات المتعددة الـزوايا، التي تقوم بها السلطات العموميـة في إطار التصدي للفيروس التاجـي والحيلولة دون انتشار وتفشـي العـدوى، وتصرفات "غير واعيـة"، من شأنها تعريــض الأنفس للتهلكــة، وإلحـاق الضـرر بأشخاص آخرين، يتخذون كل التدابير والإجراءات الوقائية والاحترازيـة، ومنها الالتزام بوضـع الكمامة.
وفي هذا الصدد، ورغم ترتيب جزاءات على المخالفين طبقا للمادة 4 من المرسوم بقانون رقم 2.20.292، المتعلق بحالة الطوارئ الصحية (الحبس من شهر إلى ثلاثة أشهر، وغرامة مالية تتــراوح بين 300 و1300 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتيــن، وذلك دون الإخلال بالعقوبة الجنائية الأشد)، فالبعض يتموقــع بين المنزلتين، فلا هو وضع الكمامة بشكل سليم (أسفل الفم، على مستوى العنق)، ولا هو التـزم بوضعها، بشكـل يعكس ليس فقط، نوعا من "الاحتيال الناعم" على القانون، بل ومخالفة صريحة لـه، تقتضي الجزاء، من منطلـق أن الغاية المقصودة من وضع الكمامات، هي الحرص على الجانب الوقائي والاحترازي، وهو جانب لا يمكــن كسب رهانـه، إلا عبر وضع الكمامة وفق التعليمات والتوصيات الصادرة عن السلطات الصحية، ومن يضعها بصيغة "نص.. نص" حاله كحال الذي لا يلتزم بوضعها، وهي حالات يمكن تشبيههـا بحالات أخرى متشابهة، كما هو الحال بالنسبة لبعض سائــقي الدراجات النارية الذين لا يلتزمون بوضع "الخوذة الواقية"، ولا يضعونها على الــرؤوس إلا إذا انتبـهوا إلى تواجد شرطي المـرور، أو بعض سائقي السيــارات الذين يقــودون سياراتهـم بسرعة ودون احترام الإشارات الضوئيـة، ولما تحضر المراقبــة الشرطيـة، يضطـرون على مضض إلى الالتـزام بسلطة القانـون، تخوفا من أية مخالفـة محتملـة، بدل الإدراك أن ارتداء "الخوذة" واحترام قانون السير، هو حماية للنفــس وللغيــر.
وكلها مشاهد وغيرها، تعكــس بجلاء ما بـات يعتري مجتمعنــا، من ممارسات التهـور والعبث والأنانيـة المفرطة والتراخي وانتهاك سلطـة القانون، ويكفــي النظر إلى ما تخلل ويتخلل حالة الطــوارئ الصحية من تصرفات "غير مســؤولة"، من إقبال على الشوارع دون أي مبـرر أو ضـرورة، ومن ازدحام في الأســواق الشعبية، ومن ارتفاع لمنسوب الإشاعات والأخبار الزائفـة، وخــروج جماعي إلى الشوارع احتجاجا على عــدم تلقي الدعـم المادي أو الغذائـي (القــفف)، وتشييــع جماعي لجنازة في الشارع العام كما حدث بالدار البيضاء، ومن استحمام لشبان طائشيـن على مستوى سكـة ترامـواي، وإقبال على الشــواطئ وتنظيم بعض دوريات كرة القدم خلال رمضان، وغير ذلك من التصرفات التي وإن اختلــف أطرافهـا وتباينت ظروفها وأمكنتهـا، فهـي تتقاطـع في خانـة التهـور بكل أبعاده ومستوياتــه، وهو واقع "مقلق" يقتضي الرهان على الوعي الفردي والجماعي، للإسهام في إنجاح ما اتخذته الدولة من تدابير ومخططات، في أفق الخروج التدريجي من تداعيات الجائحة، وهو رهان لا يمكن تملكه إلا بالمزيد من التحسيس والتوعية، والاستثمار في قطاع التربية والتكوين، من أجل صناعة الإنســان، الذي يمكن التعويل عليه في اللحظات الاعتيادية كما في اللحظات الخاصة والاستثنائيـة.
وما دمنا بصدد التخفيف الجزئي للحجر الصحي خاصة بمنطقة التخفيف رقم1، نتموقــع جمعيا كدولة ومجتمع وأفراد، في منعرج أخير في اتجاه الرفــع النهائي للحجر الصحي، في ظل واقع يجعلنا أمام تحديات ثلاثة، أولهـا: التحكم في الحالة الوبائيـة بالحرص على محاصرة الفيروس التاجي، والالتزام المجتمعي بالتعليمات الصادرة عن السلطات الصحية ذات الصلة بشــروط الصحـة والسلامة (وضع الكمامات، التباعد الاجتماعي (الجسدي)، الحرص على النظافة والتعقيـم، احترام مسافات الأمان... إلخ)، وثانيها: تحدي إنعـاش الاقتصاد الوطني، بتحريك عجلة الأنشطة الصناعية والتجارية والخدماتية والحرفية، وثالثها: معالجة التداعيات الاجتماعية للجائحـة، وإذا كانت هذه التحديات الثلاثـة من مسؤوليات الدولـة، فإن المواطنين، يتحملــون مسؤوليات تملك قيم المسؤوليـة والالتزام والانضبـاط واستحضار المصلحة العامة، من أجل الإسهام في كبــح انتشار الفيروس العنيـد، والإسهام في تثميـن ما تحقق من مكتسبات وإجماع وطني خلال المرحلة السابقة، وإذا كانت "الكمامة" هي التي حركت القلم لترصيــع قلادة هذه السطور، فماهي في شموليتها، إلا "قطعة قمــاش"، وإذا كانت الغاية المأمولة منها، مرتبطـة بمفردات الصحة والحماية والوقاية، فهي في ذات الآن، تشكل "مرآة" تعكـــس، قدرتنا على الالتــزام والانضباط والمسؤولية واحترام بعضنا البعــض، و"مقياسا" نقيـــس به درجة حرارة وعينا الفردي والجماعي، ومنسوب قدرتنا على التحمل والتكيـف والتعاضد والتلاحم والتعبئـة لمواجهة التحديات الآنيـة والمستقبليـة، ومن لا زال وفيا للكمامة "نص.. نص"، ندعــوه لأخذ العبرة من "ترامــواي" الرباط، الذي تــزين بالكمامة، حاملا رسالة تواصليـة راقيــة لكل من يسطر عليه "كوفيــد" العبث والتهور والتراخـي، ونختــم بالقول، إن العبــرة ليست في التخفيف الاختياري أو التقييـد الاضطراري، بـل في مدى التقاطنا للإشارات ومدى استفادتنا مما جادت به "كورونا" من دروس وعبـر، ومـدى استعدادنا كدولة ومجتمع وأفراد، لمواجهــة تحديـات ما بعد الجائحة التي أربكــت كل العالـم؟