من أجل عيون ماريان

جمعة, 06/12/2020 - 09:29

مازالت فرنسا، التي اختارت لنفسها صورة امرأة دليلا على الحرية والعقل وقيمها الخاصة، تكرر تاريخها الاستعماري ولا تستحي من الكشف عن وجهها القديم حالمة بدول كارتونية تقودها نخب مصنوعة على المقاس. فالوقائع والأحداث التي تتوالى، في كل مرة، تثبت محاولة السيد الفرنسي استعادة أمجاده " الإمبراطورية " من خلال الدفاع عن مصالحه وتمكين ممثليه في تدبير الشأن العام. لذا لم يكن مفاجئا أن تخرج علينا السفيرة الفرنسية بالرباط لتذكرنا، وتصر على ذلك، بالعلاقة الحقيقية بين دولتها والمستعمرات القديمة. ففي تدوينتها على حسابها في التويتر أكدت هيلين لوغال اجتماعها بالسيد شكيب بنموسى المعين على رأس لجنة النموذج التنموي من طرف العاهل المغربي وأنها "شكرته" على تقديم تقرير مرحلي عن عمل هذه اللجنة. وإذا كان السيد بنموسى قد حاول تعميم الحديث وتغيير بوصلة النقاش، فإن هذا يعيد تذكيرنا بحقيقة العلاقة التي تربط المركز الباريسي بالنخبة الفرنكفونية التي تسربت إلى دواليب التدبير في المغرب والدول المغاربية والإفريقية. والحادث ليس استثناء. فالمغاربة يتذكرون تغريدة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن الفرنسيين العالقين في المغرب عقب قرار السلطات المغربية وقف الرحلات بينها وبين فرنسا؛ التي طلب فيها وبأسلوب استعلائي من السلطات المغربية الحرص على القيام بما يلزم لتحقيق ذلك في أسرع وقت. بالطبع لم يكن مسؤولو الإدارة الفرنسية محتاجين إلى التصويب أو الاعتذار لأنهم تعودوا على هذه الممارسات، كما تعود المسؤولون المغاربة على الصمت والانصياع. والأمر نفسه يتكرر في دول الجوار، حيث السفير الفرنسي في تونس يتصرف كمقيم عام متجاوزا لكل الأعراف الدبلوماسية ومداوما على التدخل في شؤون الدولة الداخلية من نحو مساندة الإضرابات القطاعية وضبط التوازن بين الأحزاب حتى وصل به الأمر إلى التدخل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وفي الجزائر لا يختلف الأمر كثيرا وإن كانت أيام السفير الفرنسي الحالي باتت معدودة بعد أزمة دبلوماسية كان هو السبب الرئيس فيها. فلم هذا الاستعلاء في علاقة المركز بالهامش المغاربي والإفريقي؟

يلخص عالم الاجتماع الغيني أمادو دونو الأمر في عبارة: "كل بؤس إفريقيا يأتي من فرنسا...فرنسا ليست شيئا بلا أفريقيا!". بهذا المنطق النفعي تلتزم الإدارة الفرنسية التعبير عن تملكها السيادي لقرارات الدول الخاضعة لوصايتها من خلال السيادة الثقافية والتربوية والاستراتيجية والاقتصادية وتسخير النخبة المرتبطة بها للتبشير بمزايا هذا الارتباط. وكلنا يتذكر الحملة الشعواء التي شنتها هذه النخبة على وزير الخارجية التونسي السابق لكونه لا يتقن الحديث بالفرنسية وأن ثقافته أنكلوسكسونية. والأمر نفسه تكرر في المغرب مع وزير الاتصال السابق حيث ثار ورثة الزمن الكولونيالي حين مست مصالحهم الثقافية والمادية بطبيعة الحال. وكلنا يتذكر عبارة أحمد رضا الشامي الذي غدا فيما بعد رئيسا للمجلس الاقتصادي والبيئي: "لا تمس بتعددي اللغوي السيد الوزير" دفاعا عن الحضور الفرنسي في قنوات القطب العمومي. وهي نفس النخبة التي قاومت بشراسة من أجل فرنسة المدرسة المغربية بالتراجع عن مسار طويل من الاستقلال الهوياتي. وتقاوم في كل مرة غدت مصالح السيد خاضعة للمراقبة الشعبية. لكن هذه النخبة بالرغم من ولائها لماريان وفروض الطاعة التي تقدم، تعيش على هامش الزمنين: زمن المركز الذي حصر دورها في الخدمة "الذيلية" دون القدرة على الانتماء له، وزمن المجتمع الذي يرفضها فتلجأ دوما إلى فرض مشاريعها عبر الكواليس والصالونات دون القدرة على اقناع الشعب أو استشارته. ولنتذكر جيدا مجريات القانون الإطار للتعليم. لذا كانت السفيرة الفرنسية واضحة وهي تتعالى لتسمي الأمر بكونه عرضا خاصا من الأسفل إلى الأعلى.

إن الإشكال المطروح لا يتعلق بالعلاقة الاستراتيجية بين بلدين مستقلين لهما شراكة اقتصادية وعلاقات تاريخية يمكن الاستفادة منها، لكن الأمر أعمق حين تتحول العلاقة إلى هيمنة تتجاوز المجالات والحدود. فقبل مدة قصيرة، وفي الوقت الذي انشغل فيه أبناء المغرب والمنطقة بوباء كورونا وكيفية تدبير تأثيراته الاقتصادية والاجتماعية، تناقلت وسائل الإعلام الفرنسية وثيقة "سرية" مسربة أنجزها مركز التحليل والاستشراف والإستراتيجية (CAPS) التابع لوزارة الخارجية الفرنسية تحت مسمى: العاصفة القادمة إلى أفريقيا؟. حيث وضع فيها معدو الوثيقة سيناريوهات بعد كورونا في الدول الإفريقية التي ستصل إلى درجة الإفلاس والفشل وعدم القدرة على حماية سكانها اقتصاديا وسياسيا وأمنيا مما سيسمح بالانطلاق نحو التغيير الشعبي المنتظر الذي ستقوده إحدى الجهات الأربع المؤهلة على تعبئة الجماهير إبان مرحلة ضعف الدولة، والتي تقترح الورقة اعتبارهم محاورين محتملين للإدارة الفرنسية في المرحلة القادمة: السلطة الدينية وأفارقة الخارج والفنانون المشهورون ورجال الأعمال. وبهذا المنطق التملكي الهيمني تغيب عن أصحاب الشأن في باريس مفردات السيادة الوطنية أو العلاقات الدبلوماسية أو قيم الجمهورية التي صنعت لها تمثالا، وتحضر الرؤية الحقيقية لإفريقيا باعتبارها حقلا للتجارب السياسية والاجتماعية ومجالا للاستنزاف الطبيعي والاقتصادي، بل ومختبرا لتجربة اللقاحات كما عبر بعضهم مؤخرا بشأن فيروس كورونا.

إن الخطأ الذي ارتكبه رئيس لجنة النموذج التنموي ليس حدثا عرضيا يمكن تبريره بالتواصل مع الهيئات المختلفة بل هو دليل على مسار طويل من تثبيت الانتماء للسيد الفرنسي لا يمكن معالجته إلا برؤية وطنية مغايرة تستوعب أن السيادة الوطنية ليست مجرد شعار يقحم في النص الدستوري، بل هي رؤية ثقافية واجتماعية وسياسة إجرائية تنطلق من الاعتزاز بالذات لتنفتح على الآخر.

الفيديو

تابعونا على الفيس