بينما كان السياسيون والنخبة المثقفة منغمرين في تأسيس اليمين واليسار كركيزتين للتوجه الإيديولوجي السياسي، وتعريف المبادئ العامة لقيادة الدولة، منها الديمقراطية والحرية والعدالة القضائية والاجتماعية... حينها كانت البشرية تفقد أولى اللّبنات الأساسية لبناء دولة تتوفّر على شروط العيش المشترك، إنها الإنسانية..!
الولايات المتحدة الأمريكية، التي طالما نصّبت نفسها ملقّنة الديمقراطية والحرية وفانتازيا حقوق الإنسان، تشهد اليوم حشودا من المتظاهرين لا يساريين ولا يمينيين، متحررين من كل القيود "السياسويّة" لينتصروا للإنسانية؛ فالانتفاضة بدأت على هامش مقتل أمريكي من أصول إفريقية، جورج فلويد، جراء الضغط على عنقه من قبل عنصر الشرطة. وعلى هامش هذا الحدث، استرجع الشعب الأمريكي ظاهرة تفشي العنصرية داخل المجتمع، واسترجع الأمريكيون من الأصول الإفريقية ألم "البلوز"(The Blues )، نوع موسيقي حزين شجي مشتق من موسيقى الجاز، كان السّمر يعبّرون فيه عن أسى التمييز العنصري واختلال العدالة الأمريكية.
تصادف هاته الاحتجاجات فترة الانتخابات الأمريكية، حيث يمرّ الجمهوريون بمرحلة حرجة، خاصّة بعد انخفاض شعبية الرئيس ترامب الذي واجه الاحتجاجات بالعدوانية والوعيد بإنزال الجيش الأمريكي لمواجهة الشعب بالعنف، كما وصف المحتجين بالفاسدين"Thugs " والرعاع والفشلة، ووصف حكّام الولايات بالضعفاء واتهمهم بسوء تدبير الاحتجاجات. وحتى لا ننسى البروباغندا الترامبية، خرج الرئيس في خطاب متناقض، حيث كان يَعِد باتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف العنف وفي الوقت نفسه هدد بنشر الجيش. في هذا الصدد، نبّه جو بايدن، المرشح الديمقراطي للرئاسة، إلى أن الرئيس ترامب يستخدم الجيش الأمريكي ضد الشعب. وفي جوّ استعراضي، توجّه ترامب إلى الكنيسة المقابلة للبيت الأبيض، حاملا الإنجيل ويتطلّع إلى مستقبل أفضل للولايات المتحدة الأمريكية، علما أنه في تلك الأثناء كانت مواجهات عنيفة بين الشرطة والشعب الأمريكي تجري على بعد أمتار قليلة منه.
على مستوى الشأن الداخلي للولايات المتحدة، يمكن الاستنتاج أن انتفاضة الشعب الأمريكي ناتجة عن تراكم المضايقات الاجتماعية وضعف أداء المؤسسات؛ فالاهتمام الضخم بالسياسة الخارجية أنهك التنظيم السياسي الداخلي، الذي نأى عن الوضع الاجتماعي والحقوقي للشعب الأمريكي. إلاّ أن هاته الاحتجاجات هي جد صحيّة، لأنها ستفضي من دون شك إلى تطوير الترسانة القانونية وتغيير الزعامة السياسية الأمريكية التي تقوم على البروباغندا كما نهجها دونالد ترامب، بالإضافة إلى رفض نظرة التعصّب والتمييز. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ العنصرية لا تخص فقط لون البشرة، بل حتى العرق والانتماء الديني والثقافي؛ فالصينيون يواجهون أيضا اعتداءات عنصرية في أمريكا، خاصّة بعد انتشار فيروس كورونا وتسميته من طرف الرئيس الأمريكي ترامب بـ"الفيروس الصيني". لكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو: هل سيكون للمحتجين الوعي لاستثمار طاقتهم وإرادتهم للتغيير في العملية الانتخابية؟ هنا يلعب التصويت دورا مفصليا في نجاح أو فشل الاحتجاجات.
أمّا على المستوى الدولي، فالعالم استفاق من الحلم الأمريكي على حقيقة صعود القوة الاقتصادية الضخمة للصين، التي أضحت تشارك الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأوروبية في قيادة النظام الدولي. ويجب الذكر أن نهاية عهدة ترامب قد تكون مبعث يسر لتفادي الحرب المسلّحة مع الصين، وذلك بإعادة إرساء التشارك والحوار، وهي قيم واردة أكثر في المدرسة الصينية التي تتميّز بالقوّة الناعمة" Soft Power" باحترام جميع السياسات والثقافات المختلفة والتركيز على شراكة رابح رابح. فالصينيون لا ينشغلون بترويج النموذج الصيني وثقافتهم بقدر اهتمامهم بتطوير الاقتصاد وتوسيع مجالات الشراكة.
من خلال ما سبق، نخلص إلى أن الإدارة الأمريكية الحالية باتت جزءا من الأزمة الاجتماعية، وذلك راجع إلى مناصرة ترامب للشرطة وعدم إبدائه أي تعاطف تجاه المتظاهرين، ممّا يصعّد العنف في الشارع وانتشار الكراهية بين المواطنين. ولا يخفى أن ترامب أصبح جزءا من أزمة السياسة الخارجية أيضا، بحيث أفرط في استعمال عبارات عنصرية تجاه الصين في معجم خطابه، فاقترن شخصه بحدّة العداء اتجاه الصين.
كما لا يمكن الجزم أنه بعد عهدة ترامب ستنشأ صداقة أمريكية صينية، إنهما قوّتان ستتنافسان على قيادة النظام الدولي؛ لكن من المرجّح أن يكون هناك انفراج من خلال جلوس الصين والولايات المتحدة إلى طاولة المفاوضات وإعادة ترتيب الأوراق الإستراتيجية وبناء نظام عالمي جديد، وإلاّ سيكون العالم أمام وضع كارثي، ستنتج عنه أزمة عالمية. ويمكن أن يكون لجو بايدن دور مهمّ في هذا الشأن، خصوصا بعد زيارته للصين، بصفته نائب الرئيس السابق باراك أوباما، من أجل تهدئة الأوضاع، ومحاولة إيجاد منطقة وسطى للتفاوض، حيث أبدى بايدن دراية عملية بالملف الصيني وبالآليات الدبلوماسية الملائمة لهذا الملف.
*باحثة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية