''نحن لسنا أحرارا بعد، بل فقط وصلنا لحرية أن نكون أحرارا'' (نيلسون مانديلا)
''لا يمكننا قتل بعضنا البعض'' (نيلسون مانديلا)
"العالم مليء بالظلم'' (تشي غيفارا)
''لا شيء في العالم أخطر من الجهل الخالص والغباء المتعمد'' (مارتن لوثر كينج)
كان عنق جورج فلويد، الشاب الأمريكي الأسود؛ البالغ من العمر ستا وأربعين عاما، واقعا بإحكام تحت كماشة حادة لركبة شرطي، بعد توقيفه في إحدى شوارع ولاية مينيوسوتا، بتهمة حيازته نقودا مزيفة. لم يستغرق المشهد سوى سبع دقائق، كي يتم ''ذبح'' المتهم من ''الوريد إلى الوريد'' بهدوء؛ بكيفية تنم عن أقصى درجات الحقد والغل والجرم، وافتقاد كل مرجعية أخلاقية أو إنسانية. ثم يغادر المستنجِد؛ عالمنا المتحضر جدا، بعد مذبحة تذكرنا مطلقا بهمجية افترضناها ولَّت سيناريوهاتها مع العصور البدائية..
ما زالت أمام الإنسانية، كي تستحق حقا اسمها، رحلة طويلة وشاقة!
بقي الرجل المنبطح أرضا، يردد تباعا إيقاعات استعطافه، لكن دون رحمة، فكان توقف أنفاسه بعد كل شيء رحيما؛ انتشله أخيرا من هذا العالم، كي يستريح أبديا إلى صمته. عالم، لم يعد يدرك ولادات أخرى، سوى تكريس طقوس الضغينة والعته والغباء: "إنه وجهي، لم أرتكب أي فظاعة، أرجوكم، أرجوكم، أرجوكم، إني أختنق، أرجوكم، أرجوكم، فليساعدني أحدكم، لا يمكنني التنفس، أجد صعوبة في ذلك، أرجوكم (بدا صوته غير مسموع)، لا يمكنني التنفس، أرجوكم (صوت خافت)، بئسا! أجد صعوبة في التنفس، لا يمكنني التحرك، أمي، أمي، لا يمكنني، ركبتاي، عنقي، وضع خانق، يؤلمني بطني، عنقي، ألم يسري على امتداد أجزاء جسدي، أريد قليلا من الماء، أرجوكم، أرجوكم، لا أقدر على التنفس، أيها الضابط لا تقتلوني، إنكم تفعلون بي ذلك، لا أقدر على التنفس، لا أقدر، سأموت، إنكم بصدد قتلي، لا يمكنني التنفس، لا يمكنني، أرجوكم سيدي، أرجوكم، أرجوكم، إني أختنق''. أغلقت عيناه، توقفت متواليات تضرعاته. لحظات بعد ذلك، أعلن بأن جورج فلويد قد فارق الحياة…
ما زالت أمام الإنسانية، كي ترتقي فعلا إلى اسمها، رحلة طويلة وشاقة.
حدث ليس عاديا، هي جريمة مكتملة الوقائع. أشعلت، بالتالي، تظاهرات حارقة في الولايات المتحدة الأمريكية. ستخلط حتما بين كل شيء، ثم تستمر رقعة الحكاية في الاتساع؛ كي تأخذ أبعادا أخرى، تخرج لامحالة عن نطاق السيطرة، كما حدث على امتداد التاريخ، في ما يتعلق بأحداث ابتدأت أحادية المنحى، لكنها اتخذت مسارات معقدة؛ متداخلة جدا، لأن ردة الفعل الأولى، تلك البناءة، لم تكن بالمستوى الفعال، فأخطأت البوصلة.
هكذا، بدل أن يتصرف الرئيس ترامب بحكمة تليق به، كزعيم لأعظم ''ديمقراطية'' في العالم المعاصر، فيمتص غضب الأمريكيين المتحدرين من أصول إفريقية، ويعتذر أساسا باسم مؤسسات الدولة الأمريكية للشعب الأمريكي؛ والإنسانية قاطبة، ثم يضع ملف الجريمة أمام القضاء ليباشر تحقيقا وينفذ تشريعاته الجزائية.سارع،على العكس، وفاء في الحقيقة لعنجهيته المعهودة قياسا لملفات أخرى، إلى صب مزيد من أقداح الزيت على النار، بحيث شرعت تغريداته وخرجاته الإعلامية، من الوهلة الأولى، تتهم المتظاهرين بالتطرف والإرهاب، واصفا إياهم في مواضع أخرى بقطاع الطرق واللصوص؛ ملوحا بتدخل الجيش فورا وإعلان حالة الطوارئ. وكأننا حقا بلا ريب، أمام واحد من ديكتاتوريي المنطقة العربية، أو جمهوريات الموز، وقد اعتدنا عليهم منذ زمان طويل باعتبارهم فوق الدولة وخارج أي إطار مؤسساتي، يصدرون الكلام على عواهنه، بعجرفة؛ دون أي احترام يذكر لأبسط مشاعر شعوبهم. لذلك قلت في عنواني: ترامب ''بيتكلم عربي''. مستعيرا التسمية، من الأغنية الشهيرة للفنان سيد مكاوي ''الأرض بتتكلم عربي''.
يقول إدغار موران، بين فقرات إحدى مقالاته الصادرة حديثا: "لاحظنا، ظهور وترسخ دول شمولية جديدة، امتدت إلى جميع القارات، بما في ذلك أوروبا.مثلما رأينا أيضا، بالنسبة لكثير من البلدان، أن أشخاصا ديماغوجيين غريبين ومخيفين، وصلوا إلى مراكز السلطة".
ما زالت أمام الإنسانية، كي ترفع رأسها عاليا، رحلة طويلة وشاقة!
وظف دونالد ترامب، جملة سيئة السمعة بالنسبة للسود الأمريكيين، تستفزهم وتثير حفيظتهم؛ في المعتاد، لأنها تذكرهم بسنوات الميز العنصري القاتمة: "إذا بدأ النهب يبدأ إطلاق النار''. دعوته للعنف المبطنة، دفعت شركة "تويتر" إلى أن تضع أمامها علامة تحذير، من باب إثارتها الانتباه بأنها تغريدة ''انتهكت قواعد تويتر"، بتمجيدها للعنف. يعود سياق هذه العبارة إلى سنوات الستينات، وقد اشتهر بها آنذاك، والتر هيدلي، قائد شرطة ميامي، الذي عرف بصرامته الشديدة ضد السود.
ما زالت أمام الإنسانية، كي تتسيد مصيرها بوعي، رحلة طويلة وشاقة!
أيضا لم يتردد الرئيس الأمريكي، بغير روية؛ في توجيه تهمة إشعال الاحتجاجات إلى الحركة اليسارية المناهضة للعنصرية والفاشية والنازية والنيوليبرالية، ذات النزوع النضالي الاشتراكي والشيوعي؛ المعروفة اختصارا بـ''أنتيفا''، العدو الموضوعي لجماعة ''بوجالو'' اليمينية المتطرفة. ثم، أسرع نحو نعتها بالجماعة "الإرهابية''، وعزم إدارته على إدراجها ضمن تصنيف المنظمات الإرهابية.
ما زالت أمام الإنسانية، كي تدرك المعاني الحقيقية لوجودها، رحلة طويلة وشاقة!
بالكاد انطلقت سجلات المرافعات النظرية المنتقدة للرئيس ترامب، نتيجة فشله في تدبير ملف كورونا، بحيث تحتل الولايات المتحدة الأمريكية، المرتبة الأولى عالميا، من حيث عدد المصابين والوفيات، وقد فاق عددهم العسكريين؛ الذين قتلوا خلال معارك حرب فيتنام، وخسائر اقتصادية تقدر بملايير الدولارات.أيضا،بينما المؤسسات الأمريكية،منشغلة بكيفيات تدبير الاستراتيجيات الممكنة، لتحريك عجلة الاقتصاد الأمريكي ثانية،قصد تدارك العجز المهول.جاءت تغريدات وتصريحات دونالد ترامب، على ضوء واقعة جورج فلويد، كي تدخل بلاده حربا أخرى لا أحد يعلم، مثل كورونا تماما، متى ستنتهي وكيف ستنتهي، وحجم الخسائر المحتملة؟
ما زالت أمام الإنسانية، كي تنتصر في حربها على الشر والأشرار، رحلة طويلة وشاقة!