حتى يتنفس جورج

جمعة, 06/05/2020 - 12:53

حليمة الجندي

والعالمُ يستفيق من سكرةِ ما "لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت"، بعد قسْر التواري والاختفاء في عامنا العجيب هذا، وبينما أهلُه لاَهُون عن الدنيا وما فيها، بين آملٍ حذرٍ يترقب أن يعلنَ "النهاية" بمصل مُحرر أو معجزة إلهية، ومتمردٍ غر أضاقه الانتظار وتخبُطُ أهل الحلِ فقرر أن يكتبها ـ أي النهاية ـ و"يُحرر" نفسه بنفسه ولو إلى حين؛ فيما نحن منشغلون بأنفسنا وبما هو آتٍ من "بدايات" جديدة، علت الصفحات الأُوَل للجرائد والمواقع حول العالم ـ ربما لأول مرة منذ بداية هذه المحنة ـ أخبارٌ جَبَتْ ما سواها و"بَشَرَتْنَا" بأن عالمنا هو هو لم يتغير أبدا: مكانٌ بارد ومخيف للغاية.

أغلب الظن أنك سمعت أو لعلك شاهدت الشريط المصور الذي يظهر فيه الرجل الأمريكي ذو الأصول الإفريقية جورج فلويد وهو مطروح على بطنه يستجدي بصوت لاهث معتقله الشرطي الأبيض ويتوسله بكلمات أصبحت الآن شعارا للهبة الأكبر في الولايات المتحدة منذ اغتيال مارتن لوثر كينغ سنة 1968، إن لم تكن أبلغ منها أثرا وأكثر تعقيدا ككل الأشياء في هذا الزمان.

تمتم فلويد: "..لا أستطيع أن أتنفس..أرجوك.. لا أستطيع أن أتنفس".

اختنق ـ حرفيا ـ صوته، واختفى العويل الفظيع الذي وثَقَتْهُ عدسات هواتف المتحلقين من المارة وهم بين ملتمسٍ وغاضبٍ وغيرِ مصدق.

انْسَحَقَت رَقَبَةُ فلويد وظلت رُكبة مُعْتَقله جاثمةً عليها لدقائق بدت طويلة جدا، حتى جاء "المسعفون" ودحرجوه على سرير ناقل، مِثلما تُحمل الشِيَاهُ بعد ذبحها في منظرٍ ينضاف إلى إيكونوغرافية الموت والعنف العبثي الفاضحة التي قد يتغير أبطالها في الأشكال والألوان والألسن، وتظل ثابتة تذكرنا دوما بأن الطبع البشري غالبٌ على تَطَبُعِه، وأن بعض الجوائح ـ العنصرية ـ لا مصل لها ولا دواء.. يكفي أن يوجد المبرر والغطاء، وأن تغفل عنه أو تتواطأ معه عينُ الحَكَمِ والرَقيب.

ينضاف هذا الحدث الحزين إلى لائحة طويلة من التأريخات البصرية المُعاصرة التي ما كانت لتصلنا لولا تقنيات التواصل المنفلتة من قبضة المؤسسات، والتي تسمح للمواطن والجمهور بأن ينتج المعلومة ويقود ذاتيا "التغيير"، لتذكرنا مرة أخرى بأننا قد دخلنا منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نظاما/لانظاما اجتماعيا وثقافيا جديدا، لا ينفك يُفرز نخبا موازية ورأيا عاما افتراضيا يتأثر ويؤثر بَيْنِيًا وبشكل أفقي على بعضه البعض، يذوب فيه الفرد تلقائيا داخل الجموع ويستمد شرعيته من فكرة المصداقية التي يمثلها هذا الفرد في مقابل مصداقية المؤسسة (الأنظمة، الأحزاب، وسائل الإعلام..) التي أثبتت خيبات الأمل المتتاليةـ وأحْدَثُها الفشل الذريع في بلاد كالولايات المتحدة في مواجهة جائحة هذا الزمان ـ قلت أثبتت هذه الخيبات ضعف هذه المصداقية أو قل حتى انعدامها، لتصبح الهبة أو الثورة أو الاحتجاج في الولايات المتحدة اليوم، مثلما كانت في منطقة الشرق الأوسط بالأمس، هي الوسيلة والغاية على حد سواء، ومحاولة من الفرد انتزاع حقه في التصدر والإنتاج والقيادة لأنه المالك الوحيد، ظرفيا على الأقل، لهذه المصداقية.

ولنعد قليلا إلى سنة 2006 حين قامت مجلة Time الشهيرة باختيار "أنت (You)" كشخصية العام، ووضعتها على غلاف عددها لشهر ديسمبر.التقطت Time مُقدمات قوة غير مسبوقة اكتسبها الفرد، وصفتها بـ"الثورة التي ستغير الطريقة التي سيتغير بها العالم".

تنبهت Time إلى أنك وأني لم نعد كما كنا من قبل: المتلقي السلبي، المستهلك المبلد والجمهور الذي لا حول له ولا قوة. كان إعصار "كاترينا" المدمر قد مر لتوه فوق الساحل الغربي لأمريكا الشمالية، وقبله ضرب تسونامي أشد شراسة شرق آسيا. لم يستطع مراسلوا وسائل الإعلام التوثيق للأحداث في حينها لأنها، ككل الكوارث الطبيعية، أتت بغتة، واكتفوا بتوثيق مابعد الكارثة. لكن العالم سيتمكن لاحقا من مشاهدة رعب تلك اللحظات المخيفة كما التقطها الناجون عبر هواتفهم النقالة وآلات تصويرهم الرقمية، ليعرضوا فيديوهاتهم المنزلية على موقع مغمور يدعى "يوتيوب" كان لم يكمل عامه الأول بعد. ثم سرعان ما تلقفت وسائل الإعلام التقليدية ـ التي كانت تنظر لهذا الإعلام الجديد على أنه هاوٍ وغير مهني ـ ذلك المحتوى وطعمت به تقاريرها حتى تضفي على خطابها المزيد من المصداقية الشعبية.

هذا التفاعل والاحتكاك بين المعرفة التي تنتجها المؤسسات وتلك التي ينتجها الأفراد أفرزت وتفرز أنماطا غير مسبوقة في الوعي والفكر والممارسة داخل المجتمع الإنساني، من جهة المتفائلون يستبشرون بعهد من الحكامة الشعبية المتيقضة التي لا تساوم على حرياتها المكتسبة الجديدة، والمتشائمون يخشون من أن تتحول حالة النظام/اللانظام الثقافي والاجتماعي والسياسي الجديد إلى حالة فوضى ثقافية واجتماعية وسياسية تأتي على الأخضر واليابس.

بعيدا عن أولائك وهؤلاء، وعن التاريخ القريب أو البعيد وعن تقنيات التواصل وتأثيرها على الأفراد أو الجماهير، هذا المقال هو أولا وقبل كل شيء عن قصة رجل يدعى جورج فلويد، تشبه قصصا كثيرة أخرى لأفراد من شعوب الروهينغا والإيغور والداليت وأبناء المهاجرين في أوروبا القابعين في مجتمعات معزولة على أطراف الحواضر، وقصص الغرباء في بلادهم المحتلة والنازحين عنها والتاركين لها قسرا أو قهرا، وعن غرباء آخرين في بلادهم لا لشيء إلا لأنهم لا يشبهون أكثرها..

قصص لا تنتهي لعنصرية مقيتة لغير المرئين من ذوي اللون أو الدين أو اللسان أو الجنس أو الجنسية "الخطأ". عصبية ضيقة وقبلية تبدو خارج الزمان والتاريخ إلى أن تطرق بابنا أو نطرق بابها. وهي أيضا قصة عن السلطة والقانون والكرامة الإنسانية وعلاقة الجميع بقوة وبلاغة الكلمة/الصورة الحرة.

أعرف جورج بالاسم لأن عابرا أشهر هاتفه وصور دليل الاعتداء عليه، ثم قرر دون العودة إلى رئيس تحريرٍ أو مدير نشرٍ أن يرفع المحتوى على صفحته أو قناته ليعرف العالم ما حدث.. وأنا أكتب حتى يتنفس جورج.

الفيديو

تابعونا على الفيس