أصبح الواقع هو الأصل في حياتنا السياسية بالمغرب، لذلك كان عبد الرّحمان اليوسفي استثناء، رغم أنه لم يعمل شيئا سوى أنه أعاد هذا الاستثناء إلى الأصل في الحكاية. عندما نستحضر الأسماء السياسية المغربية، نستحضر معهم امتدادات ماضيهم وراهن الحاضر في حياتهم وحياتنا معهم، كيف بدؤوا مشاويرهم كمواطنين بسطاء وكيف ينهون عادة مسيراتهم السياسية، التي لا تنتهي في الغالب إلا قسرًا أو بوفاة وفضيحة، وهم يملكون فيلات وإقامات فاخرة في إفران وعلى امتداد المياه الدافئة في شواطئ الأبيض المتوسط أو المحيط الأطلسي أو في مدن إفرنجية عالمية أخرى كباريس ولندن، مع حسابات سمينة في بنوك محلية؛ وقد يتجاوز الأمر إلى فتح حسابات أخرى خارج الوطن في فرنسا أو سويسرا وحتى في إسبانيا مثلا.
نسارع نحن إلى استحضار كيف كان يقضي هؤلاء عطلهم، سواء معنا أو مع عامة الناس بشكل موسمي، وكيف أصبحوا يتحاشون"نا" مع هذه "العامة"، ويعملون جاهدين على مُصاحبة علية القوم ويحذو حذوهم في ذلك بناتهم وأولادهم وزوجاتهم وحتى خليلاتهم السرّيات، ويفخرون بذلك من خلال صورهم وإحضار هدايا ثمينة. وقد نستثني هنا السياسيين المنحدرين من عائلات تكون عادة ثرية في الأصل، وإن كان لهذه الفئة هي الأخرى هشاشتها وضعفها في مجالات أخرى أمام إغراءات المناصب الحكومية. كيف يتنكرون لماضيهم ولأقرب المقربين إليهم، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة ومتعددة. لذلك فاليوسفي لم يقم بما قام به وهو رئيس حكومة التناوب أو بعدها إلا بما كان يجب أن يقوم به، والحفاظ على الأصل وإعادة الاستثناء إلى المستثنى منه.
قالت لي يوما قريبة من وزيرة في مدينة مغربية ذات موسم انتخابي، وقد ظننت أنها هي الوزيرة نفسها، وتعاملت معها على هذا الأساس، وقدمت لها نفسي على أساس أنه جاءني الحنين لأشاركها الحملة الانتخابية بحكم تواجدي مؤقتا بمدينتها..نظرت إلي في ابتسامة منكسرة، حينما رأت علامة التعجب بادية على وجهي، وقالت لي والأسى يعصر قلبها:
- "الظاهر أنني تشابهت لك مع الوزيرة، نعم أنا وهي نتشابه كثيرا إلى درجة التطابق، لأنها ابنة خالتي، ووجودي هنا ما هو إلا ذر للرّماد في العيون، وأيضا حتى لا يقول الناس إن عائلتها تعادي طموحاتها السياسية، درسنا معا أنا وهي وكنا صديقتين لا نفترق إلا للضرورة، قبل أن تصبح وزيرة وتتنكر للجميع، أما الآن فلاشيء يجمع بيننا...".
كانت الوزيرة بنت يومها فيلا فخمة في أرقى حيّ بالمدينة، في ولايتها الأولى من حكومة التناوب، تحدث عنها الإعلام يومها وأسالت مدادا كثيرا. مثل هذه النماذج وغيرها أصبحت هي الواقع والقاعدة. لذلك يبقى ما جاء به اليوسفي من تصرف استثناء، رغم أنه في الحقيقة هو الأصل.. بقي الرجل وفيا لأصله ومواطنا بسيطا متواضعا، نقي اليدين- نظيفا سواء قبل أو خلال أوبعد تركه للوزارة الأولى، يعيش في شقته المتواضعة مثل باقي المواطنين البسطاء أو أقل منهم، في شقة لا تتعدى مساحتها الثمانين مترا، ورفض طوعا منه كل الامتيازات التي كان له أن يستفيد منها بالقانون، ولم يكن لأحد أن يلومه إن فعل، لكنه اختار الأصل الذي نعتبره في ثقافتنا المغربية استثناء.
سبق أن التقيت باليوسفي في عدة مناسبات، لكن البروتوكول لم يكن يسمح لي يومها بالاقتراب منه أكثر من المُمكن، كنت أسلم عليه كما باقي الصالحين والفاسدين، ولم يترك لي الفضوليون يوما أخذ صورة معه، كما هي عادتهم حتى مع المشاهير في الأدب. وأستحضر هنا يوما طوحت بي فيه بعض الأديبات المغربيات وأنا واقف مع الروائي واسيني لعرج في مدخل مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية في مهرجان أصيلة، كل ذلك من أجل أن يأخذن معه صورة، حتى إنه استغرب لسلوكهن وللأمر في رمته، فما كان إلا أن ضحكنا معا وانصرفت أحمل مصورتي.
لكن لقائي به في فاس يناير 2019م، كان الأمر مختلفا، حين قدم اليوسفي لتوقيع مذكراته، وهي بالمناسبة مذكرات رجل دولة من عيار ثقيل لا يمكنه أن يقول فيها كل شيء.. أحسست فيها أنني أقرب إلى الأستاذ اليوسفي عاطفيا ووجدانيا أكثر من أي وقت مضى، لم أجد صعوبة في الوصول إلى المنصة رغم وصولي المتأخر ورغم الزحام الشديد بحكم أنني معروف كوجه إعلامي في المدينة، كنت آخذ له صورا بكل عشق وهو جالس في هدوئه المعتاد كرجل حكيم مع هيلين.
حضر حفل التوقيع جنبا إلى جنب كل من يحبه أو ينافقه ويحاربه في الخفاء على السواء.. حين اقتربت من الأستاذ اليوسفي أكثر رأيت إشراقة غير عادية في ابتسامته، كأنها توحي بأنه يستوعب ما يجري أمامه على طريقته وبشكل مختلف، وكان محترفو مثل هذه اللقاءات ومنظموها، كما هي عادتهم، ينطون ذات اليمين وذات الشمال، يقفزون إلى الأمام ثم إلى الخلف أو يخرجون ويدخلون من الباب الخلفي، تبيّن لي حينها أن الرجل قد بلغ من الكبر عتيا، وظهر بشكل جليّ أن التقدم في العُمر والمرض قد تواطئا معا بشكل لا لبس فيه على ما تبقى من عُـمْر الرجل وأنهكا جسده، هو الذي جرى في كل اتجاه لأكثر من تسعين سنة دون أن يستريح.
قرأ كلمته أمام الجمهور الذي ملأ قاعة المحاضرات بالفندق على اتساعها بصعوبة، إذ ساعدته هيلين في أكثر من مرة. أمعنت النظر جيّدا وعن قرب في بذلة اليوسفي، كانت نظيفة، لكن واضح أيضا أنها قديمة..تساءلت مع نفسي: "ألم يكن في إمكانه أن يحضر بأخرى وزارية وبلون أسود أو أزرق- بحري وأكثر نضارة وإشراقا، كما فعل أكثر الجالسين أمامه؟. نعم، كان بإمكانه أن يفعل، لكن الذي نسيته أن الأستاذ اليوسفي كان قد دخل في مرحلة من الزُّهد على طريقته، حتى رفيقة العمر هيلين كانت بسيطة في ملبسها وإكسسواراتها، كأنها ليست زوجة رجل دولة من العيار الكبير ورئيس حكومة سابق؛ لكن كان باديا عليهما ارتياح كبير من كل ما جرى في حياتهما، يضحكان ببراءة الأطفال ويفرضان على الجميع ما يلزم من الوقار والاحترام. كان الفندق يعُـجّ برجالات الدولة ومُخبريها، لم ألتق بكثير منهم، لكن حدث أن تصادفت في البهو مع أمينة بوعياش، وكانت مازالت حديثة العهد بتعينها كرئيسة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان. ولأني لم أكن أتوفر على سيارة، سارعت في الخروج إلى مدخل الفندق وهاجسي الوحيد هو أن أجد من يوصلني إلى وسط المدينة، حيث يسهل تدبير أمر الوصول إلى البيت بعد ذلك في ليل فاس.
في مدخل الفندق سيحدث أن أجد نفسي مرة أخرى واقفا وجدها لوجه مع مستشار الملك أندري أزولاي، كان وحيدا من دون حراسة ينتظر وصول سائقه، ولم تكن المسافة كبيرة بيننا، وأيضا لأن وجهه قد أصبح مألوفا لدينا لكثرة ما نراه في صفحات الجرائد وشاشات التلفزات المغربية، لم أجد مبرّرًا لمصافحته رغم القرب بيننا واكتفيت بتحيته برأسي. وكانت المرة الثانية التي أراه فيها في الواقع، بعد الأولى التي حدثت قبل أكثر من 36 سنة في الصويرة، كان يومها في مهمة مع وفد أجنبي يجوب المدينة، والحرّاس يطوقون الحشد ببذلهم وربطات عنقهم السوداء.
أما وقد رحل عنا، فلم يعد الآن مُهما ما قاله فيه محبّوه ولا الشامتون في رحيله ولا من حاربوه في حياته، ولا شهادة ادريس البصري الذي قال في حوار مع الصحافي محمد العلمي كان قد أدلى به لقناة الجزيرة القطرية: "زعيم اليسار جوج ديال الناس، عبد الرحيم بوعبيد وعلي يعته، وعندما رحل هؤلاء أتى آخر ما تبقى من اليسار (ويا للأسف) الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي". والبصري كما نعلم هو من حاورهم في السر والعلن، هو من سجنهم وهددهم أو داراهم. وها هو عبد الرحمن اليوسفي آخر اليساريين المحترمين قد رحل، قاوم على طريقته، عاش على طريقته واختارت الأقدار لرجل استثنائي أن يرحل كما أريد له في زمن استثنائي أيضا (جائحة كورونا)، فعليه الرّحمات وله المغفرة.