إلى حدود الساعة، وفي انتظار ما سيسفر عنه تطور الوباء على المستوى الدولي، تعتبر القارة الإفريقية ضمن القارات الخمس التي عرفت تسجيل أدنى النسب فيما يخص حجم الإصابة بالوباء والوفيات في صفوف شعوبها، مكذبة بذلك مجموع التوقعات التي ذهبت حد اعتبارها ومنذ البداية "قارة منكوبة" حتى قبل أن يمر الوباء إلى سرعته القصوى في الانتشار، حيث أظهرت صمودا كبيرا في مواجهة هذه الجائحة مقارنة مع أمريكا والدول الغربية عموما والتي كان الاعتقاد السائد بأنها وبحكم القوة والإمكانيات ستكون - ومن بعيد - الأكثر تحكما في الوباء والأقدر على كبح جماحه.
في معاكسة لكل التوقعات، تمكنت القارة السمراء من تحويل اتجاه "خطاب الشفقة" الذي كان يتم تهيئته للتوجه به صوبها، تمكنت من توجيهه نحو الدول الغربية التي بدت في وضعية جد سيئة وهي في خضم معمعة العراك مع هذه الجائحة، حيث الأعداد الهائلة من الإصابات والوفيات في صفوف بلدانها خصوصا أمريكا، إيطاليا إسبانيا وفرنسا. الأمر نفسه قد حصل مع "العبارة غير الموفقة" التي استعملتها منظمة الصحة العالمية من حيث دعوة القارة الإفريقية "للاستيقاظ" لمواجهة هذه الجائحة، حيث اتضح بأن القارة التي كانت محتاجة للنهوض من "الغفوة" «Se réveiller» هي القارة الأوروبية بحكم ما أعلنته البيانات والمؤشرات والمخلفات الكارثية لهذا الوباء على مستوى هذه الدول.
لقد أبانت إفريقيا عن قدر كبير من الرصانة في مواجهة هذه الجائحة، ربما ساعدها في ذلك نوع من "التواضع" والتقدير الحقيقي لحجم ذاتها وإمكانياتها من منطلق "رحم الله عبدا عرف قدره فلزمه"، حيث اتخذت وفي توقيت مبكر الإجراءات الاحترازية المناسبة في حينها، من دون أدنى مماطلة أو تماطل، كما استفادت من المحن التي كانت تعرفها الدول الأوروبية مع الوباء، إذ في الوقت الذي كانت فيه هذه الأخيرة تتدارس السيناريوهات المحتملة لسبل مواجهة الجائحة، في نوع من إيجاد صيغة من التوازن بين البعد الاقتصادي والصحي، كانت إفريقيا "تربح الوقت" وهي تقر السياسات المرتبطة بسد الأبواب والحجر الصحي لغلق المنافذ أمام هذا الوباء اللعين وعدم ترك الثغرات لديه للتسلل.
بلغة الأرقام والإحصائيات هذه المرة، ربما دخلت العديد من الأبعاد والحيثيات التي كانت مفيدة في الحد من الوباء داخل القارة السمراء، لعل أبرزها عامل الشباب، حيث أن حوالي 60 في المائة من ساكنة إفريقيا لا يتجاوز أعمارهما 25 سنة، كما تسجل إفريقيا أرقاما جد مهمة في ما يخص مؤشر "منتصف العمر" حيث يبلغ في حدود 19,7 سنة في إفريقيا مقارنة مع أوروبا 42,5 سنة، مؤشر كثافة السكان هو الآخر يلعب في صالح إفريقيا وهي تواجه الجائحة بمؤشر كثافة يصل إلى 45 فرد للكيلومتر المربع الواحد مقارنة بأوروبا التي تسجل في المؤشر نفسه 308 أفراد للكيلومتر المربع الواحد، بدوره عامل الطقس هو الآخر ينضاف إلى المؤشرات التي ربما كانت مفيدة لإفريقيا في خضم معركتها مع الجائحة حيث ارتفاع الحرارة ربما كان له تأثيره ومفعوله الإيجابي للحد من الوباء مقارنة مع أوروبا.
غير أن النقطة الهامة التي من شبه المؤكد أنها قد تكون لعبت في صالح إفريقيا، مرتبطة بالتجارب المريرة التي راكمتها وعاشتها العديد من الدول الإفريقية مع عالم الأوبئة، حيث مكنها "مرور" هذه الأوبئة من اكتساب بعض النقاط في سلم المناعة الاجتماعية في مواجهة هذا الوباء، كما تمكنت من اكتساب "أفضل الممارسات" في ما يخص بعض تقنيات المواجهة، فالمفاهيم المرتبطة "بالتباعد الاجتماعي، الكمامات، وبالتعقيم"، مفاهيم أصبحت جد مألوفة في قاموس تعامل بعض الدول الإفريقية مع أمثال هذا الوباء، حتى ليمكن القول بأن وصفة المواجهة الاجتماعية كانت جاهزة للتطبيق، الأمر نفسه يمكن قوله عن الطاقم الصحي وعن المستوصفات التي سبق لها وأن طورت كثيرا مفهوم "الأجنحة المعزولة" تحسبا لأمثال هذه الجائحة.
من جهة أخرى، ربما كانت بعض الدول الإفريقية تعيش لوحدها في صمت مع أمثال هذا الوباء، الجديد مع كورونا أنها جعلت العالم يعيش ويذوق مرارة جزء من المعاناة التي سبق وأن عاشتها إفريقيا في السابق، كما أن تجارب إفريقيا السابقة "وعلى مرارتها" قد تكون أسعفتها لحسن مداراة والتعامل مع هذه الجائحة، المؤسف أن هاد "تشمار اليدين" في مواجهة كورونا لم يكن بنفس القدر والكيفية بالمقارنة مع الزمن الذي كانت فيه بعض دول إفريقيا تئن وتعيش مرارة المعاناة مع أمثال هذه الجائحة، لم يحصل وأن لاحظنا أمثال هاته الحركية الدولية mobilisation mondiale لمواجهة هذه الجائحة، حركية على مستوى الدول والهيئات والمؤسسات.
المؤسف كذلك وحسب العديد من المتتبعين فإنه حتى على مستوى المختبرات الدوليةـ لم تكن تجرى فيها التجارب في السابق بنفس القدر الذي نلحظه حاليا، وهو مؤشر خطير يعطي إشارات إلى كون تحركات المختبرات في بعض الأحيان قد تكون وراءها أهداف ربحية ومالية وليست بالضرورة إنسانية، كما تبين أنه ربما لم يكن مهما أن يموت الإنسان الإفريقي أو يعيش ما دام أن إسعافه لم يكن مدرا للدخل بالنسبة لهذه المختبرات، وقد لا نريد أن نتطرف حد القول بأن بعض القراءات المتطرفة الغربية لم تكن ترى في الإنسان الإفريقي الشاب إلا ذلك المهاجر السري الذي يتهدد أوروبا، وقد تكون الأوبئة ضمن الحواجز التي تحد من نسب الولادات وكانت "وسيلة أوروبا" للحد من هذه الهجرة.
بقي أن نشير إلى أن بعض الدول الإفريقية لم تبق فقط في وضعية المتفرج في مسرح مقاومة الوباء بقدر ما أنها حاولت وبقدر الإمكان والمستطاع، الإسهام في الجهود الدولية الرامية إلى التخفيف عن المعاناة الناتجة عن مواجهة الجائحة، يكفي أن نشير إلى المبادرات التي أنجزتها بعض المقاولات المغربية في طريقة تعاملها مع الكمامات، بحيث غيرت اتجاه هيكلتها في التصنيع للانخراط في مسار تصنيع وإنتاج الكمامات بكيفية مكنها ومكن المغرب من تحقيق الاكتفاء الذاتي والتصدير إلى الخارج، الأمر نفسه نسجله على مستوى الجهد الذي بذلته دولة مدغشقر، وهي تحاول الترويج لمنتوجها "محلي الصنع" الذي تقول "بحسبها" إنه يمكن من علاج كورونا، وقد لا يهمنا هنا قيمة المنتوج في حد ذاته وقدرته على العلاج أم لا بقدر ما يهم "الطريقة الباردة" التي تم التعامل بها مع هكذا مباردة كما لو أن العلاج "إن وجد" لا يمكنه أن يحمل بصمة إفريقية...
ربما أمثال هذه القضايا وغيرها هو ما يعطي راهنية للمبادرة التي سبق لعاهل البلاد أن تفضل بها في ما يخص التضامن "جنوب، جنوب" لتحقيق إفريقيا لنوع من الاكتفاء الذاتي وأساسا لكسب رهان الثقة في إمكانياتها وقدراتها، خاصة وأن مجمل التوقعات تقول بأن "العلامة الإفريقية" آتية لا محالة في المستقبل القريب من الزمن.