منذ الأزل، شكل الطفل أساس المستقبل لأسرته ولمجتمعه. ليس هناك في الدنيا من لا يتمنى أن يكون أبناءه ذكورا وإناثا أحسن منه وقدوة لجيلهم والأجيال السابقة. فالأسرة، نظريا، هي المؤسسة الأولى في التنشئة، والركيزة الأساسية لتكوين شخصية الأطفال منذ ولادتهم إلى سن الواحد والعشرين من عمرهم. وعند الحديث عن التنشئة، نعني بذلك التأطير اليومي والمراقبة المستمرة للطفل في إطار الاحترام التام لحقوقه، كما هي مسطرة في الميثاق الدولي للأمم المتحدة. وبذلك، فالغيرة على مستقبل الطفل في المجتمعات الوطنية، وامتداداته الممكنة (المستقبل) إلى المستويين الجهوي والدولي، ليست مرتبطة بالمتمنيات، بل هي مشروع حياة يجسد مهام الآباء والأمهات. إنه المشروع المضني والمتعب الذي يتطلب تركيزا معرفيا خاصا، وكدحا عقليا وجسديا متواصلا للحصول إلى النتائج، أي تحويل الطفل كوجود إلى منتوج إنساني ذا جودة عالية. إن الحديث عن المعرفة في هذا المجال ليس دافعه الإثارة لمجردة الإثارة، بل لكون التربية علم جوهري في تكوين الفاعلين في المجتمع، علم تقدم من خلاله الأسرة إلى المدرسة طفلا مؤهلا للتعلم، لتتقاسم معها مسؤولية نجاح المراحل المتبقية لبناء شخصيته، بالشكل الذي سيمكنه من الدخول إلى المجال المادي (الاقتصادي) بمؤهلات الكسب الذاتي والمجتمعي. ففي هذا الباب، قد نلاحظ منافسة ما بين الأسر والمؤسسات الخاصة والعامة التعليمية والتثقيفية في مجال إنتاج الجودة (تشتد هذه المنافسة في المجال الخصوصي لارتباطه بالسمعة والربح)، لكن التعبير على هذه القيمة البناءة والأساسية ليس عاما بقدر ما يقتصر على فئات معينة من المجتمع ومن الفاعلين. فالطفل الذي يدخل غمار المنافسة في التحصيل الدراسي المعرفي لا يعبر في العمق إلا عن مكتسباته المتراكمة ذات المصدر المؤسساتي، والذي يجب أن تحتل فيه الأسرة الصدارة في العطاء.
وفي هذا الإطار، ونظرا لأهمية الطفولة كونيا، ارتقت الحقوق الخاصة بها إلى مستوى حولها إلى ميثاق كوني ملزم. فوعيا منها بمتطلبات هذه الفئة العمرية والأهمية التي يجب أن توليها الدول لها، سجل التاريخ المعاصر التطوير الكوني للجانب المؤسساتي (المنظمات الرسمية وغير الرسمية) والقانوني (الأمم المتحدة) في الدفاع على حقوق الطفل الأساسية وتفرعاتها، وعلى رأسها المساواة وتساوي الفرص، ومواجهة كل أشكال التمييز، والإهمال، والتقصير، والعنف، والاستغلال. لقد أصبح البالغون، من أمهات وآباء وأساتذة ومؤطرين مجتمعيين بشكل خاص ومكونات الشعوب بشكل عام، مطالبون بإيلاء عناية خاصة للطفولة من خلال الاستثمار القوي في التربية والتكوين والصحة والتنمية الذاتية العقلية المجتمعية.
إن أهمية العناية بالطفولة وارتباطها الوثيق بالمستقبل التنموي للبلدان، خاصة دول الجنوب النامية، أبرزت إلى السطح رسميا وكونيا حقوقا أساسية ذات الأولوية القصوى، التي تستوجب الحسم الفوري فيها بالمسؤولية اللازمة والجهود المطلوبة لضمان ترسيخها ثقافيا في الحياة اليومية للمجتمعات المعنية.
أول هذه الحقوق، نجد الحق في شهادة الولادة كأساس يكتسب من خلالها الطفل انتماء هوياتيا لأسرة بيولوجية أو حاضنة وجنسية وطنية، وتمكنه من التسجيل في نظام الحالة المدنية لمكان ولادته، وتمتيعه باسمين الأول عائلي معبر عن التاريخ الأسري، والثاني شخصي دال بشكل رسمي عن مجهوده ومؤمن لتراكماته المعرفية والمادية والمعنوية. إن تبسيط المساطر في هذا المجال، وتجاوز الصعوبات التي تواجه المصرحين بالولادات القديمة من خلال تفصيل مسطرة الحصول على هذه الشهادة، سيمكن مجتمعات الجنوب من تجاوز العرقلة الأولى الأساسية في مجال تعميم الخضوع لنظام الحالة المدنية. وحتى في الحالة التي تثار فيها مسألة الحفاظ على النظام العام، يجب أن تكون المساطر مفصلة بالتدقيق اللازم المحدد للآليات وعلاقات المؤسسات في هذا الباب (البحث البعدي في حالة الشك). وهنا لا بد أن نذكر القارئ، من باب التكرار، بأهمية هذا التعميم في مجالي الهوية والتخطيط في كل المجالات الحية التي ترتكز عليها وحدة وكينونة وقوة الدولة واستمرارها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. وهنا كذلك، لا بد من الإشارة أن بلورة مشروع التعميم بشرط تحقيق نسبة مائة بالمائة لا يتطلب السرعة والتدرج، بل يتطلب تفكيرا عميقا يرقى من خلاله إلى مشروع وطني تفوق أهميته عملية الإحصاء العام للسكان والسكنى. في نفس الوقت، ولتفادي العناية الهامشية والضعيفة التي توليها الهيكلة المؤسساتية لبعض الدول الجنوبية لنظام الحالة المدنية، يبقى توطيد المكانة المؤسساتية اللائقة بخدماتها إشكالية مطروحة تسائل مصادر القرار في إطار إعادة ترتيب الأولويات الضامنة لكرامة الشعوب والأمم. إن العزة الوطنية لدى الدول لا يمكن أن تكرس نوع من الإهمال للقضايا الجوهرية في حياة شعوبها، عزة تستدعي التجند بمنطق سيادي وبالقوة اللازمة والإمكانيات الضرورية من خلال بلورة السياسات العمومية الناجعة التي ستمكن المؤسسة الأولى لترسيم انتماء الطفل لأسرته ووطنه (الحالة المدنية) من الخروج من تخلفها أو النفق الضيق أو الهامشي المخصص لها.
ثاني هذه الحقوق، يتجلى في العناية الصحية القصوى بالأمهات والأطفال (الوقاية والعلاج الطبي والتغذية)، وتخفيض معدل وفيات الأمهات في سن الإنجاب وأطفال الفئة العمرية المتراوحة ما بين تاريخ الولادة وبلوغ خمس سنوات إلى أضعف المستويات في أفق رفع شعار وصوله إلى الصفر.
ثالث هذه الحقوق، ربط الأسرة بالمدرسة من خلال تعميم جمعيات آباء وأولياء التلاميذ في كل المؤسسات التعليمية العمومية والخاصة ومجالس دور التنشئة المختلفة، وتدبير انتخاب أجهزتها التدبيرية بشكل ديمقراطي من خلال فرض إجبارية حضور ومشاركة كل آباء وأمهات وأولياء التلاميذ في جموعها العامة. لقد تبين اليوم أن الأساليب المتبعة في مجموعة من البلدان المتخلفة، لتأمين المواقع بانتهاج الإقصاء، لم تنبثق على أساسها إلا تنظيمات شكلية تلغي إلى حد بعيد مبدأ المراقبة الذاتية والتعاون والتكامل والتضامن ما بين الأسرة والمؤسسات المعنية.
رابع هذه الحقوق، إيصال معدل الهدر المدرسي إلى الصفر من خلال تقوية العلاقة في مجال التوجيه ما بين المؤسسات التعليمية ومؤسسات التكوين المهني وإنعاش الشغل. وهنا، لا بد من التذكير أن هدف الرفع من القدرة عن الإدماج الاجتماعي للفئات العمرية المجتمعية بالنسبة لأي دولة "مواطنة" يعتبر من ركائز وجودها وشرعيتها بحيث يجب أن يحتل هذا الهدف، السامي إنسانيا، الصدارة في برامجها السياسية وأنشطتها اليومية. فكيف ما كانت الاعتبارات، يبقى واجب تمكين الطفل أو الشاب من المهارة المعرفية والدرابة اليدوية والتقنية والمهنية قبل سن الواحد والعشرين من أولوية الأوليات. فملاذ التلميذ في مختلف المستويات الدراسية الإشهادية (الابتدائية والإعدادية والثانوية)، في حالة فشله الدراسي والذي لا يتحمل فيه نظريا أي مسؤولية، هو التكوين المهني وإنعاش الشعل.
خامس هذه الحقوق، تطوير البحث العملي من خلال الإكثار من وحدات البحث المعرفي في مختلف المجالات ما بعد شهادة الإجازة والماستر والدكتوراه. فكما سبق لي أن أشرت إلى ذلك في مقال سابق، يبقى كذلك، في إطار تدعيم ثقافة البحث والاطلاع، خلق المنصات الإلكترونية، وإغناء مضمونها بالمعلومات باستمرار، في مختلف المجالات والمستويات الدراسية والعلمية بالدروس، والتمارين والامتحانات وحلولهما، والمعلومات الهامة، والتجارب العلمية ونتائجها، من الركائز المحفزة على التعلم والتراكم المعرفي بالنسبة للتلاميذ والطلبة والباحثين.
إن التحقيق التام للحقوق السالفة الذكر، والتي لا تتطلب اعتمادات مالية ضخمة، سيترتب عنه بدون شك على مدى المتوسط والبعيد مرتكزات منعطف تنموي جديد، تتحقق من خلالها حقوقا أخرى كثيرة ومتعددة، وتجعل بطبيعتها من الرأسمال البشري رافعة دائمة للتنمية والتحديث والعصرنة.