جلس غلام من أبناء المائة الرابعة بعد العاشرة إلى شيخ شنقيطي الطلعة، آتاه الله بسطة في العلم وسعة، ووضع أيباده على ركبته، وسأله: ما قولكم في العبادة على الفيسك بوك؟
قال: ما ذاك يا بني؟
قال الغلام: الفيسبوك برنامج للتواصل الاجتماعي يبتنى فيه أحدهم جدارا يكتب فيه وينشر عليه يومياته وبعض الصلوات والدعوات وصور الحرمين، ويشاركه فيه أصحابه بتعليقاتهم.
سأل الشيخ: وأين يبنيه؟
قال الغلام: في شاشة الكمبيوتر.
قال الشيخ: ومن يبنيه؟
أجاب الغلام: كل من يفتح حسابا على هذا البرنامج
سأل الشيخ: وما البرنامج؟
قال الغلام: حزمة من المعلومات يصوغها المهندس على نسق تقبل معه الاستغلال والتوظيف مثل المكتبة الشاملة
سأل الشيخ: ولماذا يبنيه؟
قال الغلام: الأصل أن الناس يستخدمونه للتعارف فيما بينهم، فيطلع كل منهم على جدار صاحبه، ومنهم من ينشر فيه صيامه وقيامه: وحركاته وسكناته، وظعنه وإقامته، ويكتب فيه عن وصوله لتكند، وشربه فيها لثلاث كؤوس، أجهدها أولها، ومنهم من يسهر على جدارها، ويذكر الناس بساعة السحر، وبالنزول إلى السماء الدنيا، ومنهم الذين ينشرون صورهم متعلقين بأستار الكعبة، ومنهم الذين يكتبون أنهم خرجوا من المسجد والنجوم متشابكة، وأن الإمام صلى بهم بأم الكتاب، وقنت، لم يلزمه قبلي ولا بعدي، ومنهم الذين يحشدون فيه الحشود لدعم قضاياهم، ومنهم من يذكر فيه قصص الأولين ونوادر الآخرين، ومنهم الذين يتعصبون فيه لجهاتهم وقبائلهم، ويستعرضون أنسابهم، وصور آبائهم، ويعلقون عليها كما يعلق همام رحمه الله على صور ديوانه. ومنهم من ينشر فيه من سائر الشعر والكلام، ومنهم من يعرض فيه أطايب الطعام واللباس، وأغلبهم من النساء...
قال الشيخ: وهل تختلط الجدران؟
أجاب الغلام:كل جدار له خصوصيته، ويمكن لصاحبه أن يحتجب عن غيره، وأن يحجب منشوراته عمن يريد، وأن يتخير من صحبه من يتابعه... ومنهن من تنشر عليه صور مبيعاتها من لباس ونعال وعطور...
قال الشيخ: وعطور؟
قال الغلام: تنشر التاجرة صور علب العطور، ولا سبيل لنشر روائحها، ومن أعجب بالبضاعة اتصل بالعارضة على هاتفها
سأل الشيخ: وهل تزال صور ما انعقد عليه البيع؟
قال الغلام: الغالب أن تبقى. ومنهن من تخبر بأن البضاعة بيعت.
فما قولكم فيه؟
قال الشيخ: وما قولك أن تعود إلي لاحقا؟ وودعه، وجعل الغلام أيباده تحت إبطه وخرج.
ولما عاد الغلام لوداع الشيخ، وكان على عجلة من أمره، خاطبه الشيخ قائلا:
اعلم نور الله وجهك أن هذا الفيس مجرد وسيلة، والوسائل تأخذ حكم ما تفضي إليه، وأن التصرفات التي سردت منها ما يستقيم مع هذه الوسيلة ومنها ما لا يستقيم من حيث أنها وسيلة للإعلان والإخبار. ذلك أن تلك التصرفات منها ما هو من جنس العبادة، ومنها ما هو من باب العادات والملاطفات الاجتماعية.
فما كان من الجنس الأول، فالأصل فيه الإخفاء، والقصد منه الإخلاص، والعمل الخالص "ما استتر عن الخلائق، وصفا عن العلائق"، وكان "سرا بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله." وهذا النوع من الأعمال أنفس من أن يترك عرضة لحظوظ النفس وداعية الهوى وحب الظهور التي بنيت عليها جدران الفيس، وأولى بأن يبقى خصوصية بين العبد وربه، وأعلم بأن استشراف العبد أن يطلع الناس على خصوصياته التي من هذا الجنس دليل عدم صدقه في العبودية، وأن المرء ما لم يدفن نفسه في أرض الخمول فلا سبيل له إلى الإخلاص كما ذكر القوم. ويدخل في هذا الصنف كل أعمال الفرائض والذكر، لذلك وجب حجبها عن عالم الفيس، لتمحضها لتحقيق العبودية لله وحده. ولا شأن لصحبك بها، وعلمهم بها يضرك ولا ينفعك، لأنهم يعجبون بها، فتعجب بنفسك، وتتوهم النجاة، فيحبط عملك، أعاذني الله وإياك.
أما ما كان من الأعمال الأخرى متعلقا بالعادات ومحادثة الخلان وملاطفتهم، فلا بأس به على الفيس، ووجه ذلك كونه يسهل التواصل والتعارف، فهو يجمع بين الشتيتين، ويقرب الأباعد، ويسهل الصلة والتواصل.
سأل الغلام وهو ينظر إلى شاشة أيباده: وهل يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره؟
فأجاب: تلك قاعدة أخرى فحواها أن الوسائل يغتفر فيها ما لا يغتفر في المقاصد، ومنها جواز السفر ليلة الجمعة مع كونه وسيلة لترك صلاتها.
سأل الغلام: وهل يمكن أن يكون من باب ذكر الله في الغافلين؟
قال الشيخ: إن أردت بذلك أن أهل الفيس من الغافلين، وإذا ذكرت الله على جدارك كنت من الذاكرين في الغافلين، فاعلم أن لكل جدار شأنه وحكمه، أما إذا أردت أنك تجد قوما يخوضون، وهم في غفلة عن ذكر الله، فتذكر الله في تعليقاتك عليهم، فالحكم في هذه الحالة يختلف بحسب الأحوال، والأسلم أن تتجنب هذا النوع من المجالس، وليس الذكر على جدران الفيس مما عهدنا عند السلف. وقد ذكر بعضهم أن الذكر باللسان والقلب، أما الذكر بمجرد الكتابة، فبعضهم على ألا عبرة به ما لم يصاحبه التلفظ.
سأل الغلام: وهل يصح أن يكون وسيلة لطلب العلم الشرعي؟
فأجاب الشيخ: اعلم زادني ربي وإياك علما أن العلم على قسمين: قسم يتعلق بأمهات المسائل وأصولها وتخريجاتها وتوجيهاتها، ولا أرى أن الجاد في اكتسابه سيكتفي بما يكتب على جدر الفيسبوك، وقسم يتعلق بملح العلم ولطائفه وغرائبه، كالذي أخوض فيه معك، ولا بأس به في الفيس البوك. والله أعلم.
قال الغلام :أوصني
فقال الشيخ: لا تصاحب في هذا الفيس من لا يذكرك بالله جداره، وتذكر في حسابك يوم حسابك.