لم تكن الغالبية الساحقة من الجماهير العربية تلقي بالا لكل ما يتعلق بالصراع الدولي القائم منذ سنوات، وكان هذا طبيعيا في ظل الانشغال بالجراح الكثيرة النازفة في المشهد العربي والإسلامي، لكن المشهد ما لبث أن تغير بعد جائحة كورونا التي لم تنته فصولا بعد.
لم يكن هذا هو حال الجميع بالطبع، فقد كنا نعتني به دائما؛ ليس لأننا لم نكن منشغلين بالجراحات الكثيرة التي أشغلت جماهير الأمة، بل لأننا ندرك الارتباط الوثيق بين الصراعات الدولية، وبين نظيرتها الإقليمية، بل بين الصراعات البينية العربية أيضا.
قلنا مرارا وتكرارا إن الأزمة الكبرى التي واجهها الربيع العربي تتمثل في أن كل القوى الدولية وقفت ضده رغم تناقض حساباتها. والقوى الدولية الكبرى التي تتصارع حاليا على تصدر المشهد الدولي هي أمريكا والصين وروسيا، مع قوىً أخرى مهمة كالهند وحضور للاتحاد الأوروبي وقواه الرئيسة، بجانب القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا، وفي ظل غيبة مثيرة لمصر كثقل عربي كبير.
لا حاجة لاستعادة هذه القضية، لكن لا بد من التذكير بأن القوى الكبرى إياها قد وقفت ضد الربيع العربي لاعتبارات تتعلق بمصالحها، فهي جميعا ترى في هذه الأمة منافسا قويا إذا ما توحّدت، ولو في الحد الأدنى.
وحين تتحرر دولنا داخليا، فهذا يعني محطة نحو تحررها من تبعية الخارج، وإيجاد قدر ما من الوحدة التي تمنحها قوة على الصعيد الدولي، وما من قوة من تلك القوى ستكون متسامحة مع ذلك.
وحين يُضاف إلى ذلك البعد الصهيوني سيكون الأمر أكثر وضوحا، لأن أمريكا والدول الغربية لا تحدد مواقفها مما يجري دون أخذ مصالح الكيان الصهيوني بنظر الاعتبار، والذي كان سياج الحماية الرسمي العربي هو الأهم في تثبيت وجوده، ومن ثم السماح له بمزيد من الغطرسة.
لنتذكر على سبيل المثال الموقف من مصر، ومن ثم من سوريا التي أريد لها صهيونيا أن تتحول إلى "ثقب أسود" يستنزف كل أعداء الكيان. وهو ما كان فعلا، حيث تم الضغط على الجميع لحرمان الثوار من السلاح النوعي، وصولا إلى تمرير التدخل الروسي، والإبقاء على النظام الطائفي. ومن يعتقد أن الثورة المضادة العربية كانت تتحرك على كل صعيد لمطاردة الربيع العربي من دون ضوء أخضر أمريكي، ودعم روسي وصيني، فهو واهم.
نعود إلى مشهد الصراع الدولي الراهن، والذي كان سابقا على قضية كورونا، وسيتواصل بعدها مع تصاعد تدريجي. مع الصين في المنحى الاقتصادي، مع حضور مهم لسباق السلاح، لكنه مع روسيا يأخذ المنحى العسكري (سباق التسلح) بشكل أكثر وضوحا، حيث باتت الأخيرة منافسا قويا على هذا الصعيد.
لا شك أن الصين هي التحدي الأكبر بالنسبة لأمريكا، ومواجهة صعودها باتت أولوية استراتيجية لن تتغير، بصرف النظر عن لون الرئيس في البيت الأبيض، من دون تجاهل روسيا بطبيعة الحال، ومع حضور لشخصية الرئيس في إدارة الصراع من حيث التكتيكات.
ولأن الأحادية الأمريكية قد انتهت عمليا، وباتت التعددية القطبية هي الواقع العملي راهنا، مع استمرار تفوق أمريكا على كل طرف على حدة، فإن السؤال الذي صار يُطرح راهنا هو ذلك المتعلق بالمسار الأفضل للعرب والمسلمين: هل يتمثل في أمريكا واستمرار تفوقها، أم حلول الصين مكانها كقوة كبرى، أم حدوث ذلك بتفاهمات مع روسيا، بحيث يصبحان معا أقوى من أمريكا؟
وفي حين لا تقدم روسيا للعالم غير السلاح، فإن الصين ليست كذلك، إذ تنافس أمريكا على صعيد التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، من دون أن تكف عن تطوير السلاح أيضا، وكل ذلك بجانب سطوة تجارية تتصاعد تباعا، ومساعي لبسط نفوذ في المشهد الدولي؛ من دون أن تستعجل قطف الثمار، إذ لا مشكلة لديها في أن تصبح سيدة الموقف بعد 10 أو 20 عاما من الآن.
بعض المسلمين يرون أن أمريكا هي الأفضل، فالموقف الأيديولوجي من الإسلام أقل سوءا من موقف الصين (الشيوعية)، ومن موقف روسيا (بوتين)، المسكونة بهواجس الإسلام، والتي تواصل الحديث عن أقليات المنطقة ورعايتها لهم على حساب الغالبية، بدليل انحيازها للتحالف الإيراني، حتى لو بدا أن بعض التناقض ينشأ معه في سوريا.
يذكّرنا هذا الجدل بجدل مشابه نشأ قبل عقود فيما يتعلق بأيِّ الطرفين أفضل للمسلمين (أمريكا أم الاتحاد السوفياتي). هذا على المستوى الشعبي، فيما كان المستوى الرسمي منقسما بينهما (بين ما كان يُعرف في أوساط اليسار والقوميين بـ"الدول الرجعية"، وبين ما يُعرف بـ"الدول التقدمية")، وهو ما كان ينسحب على الجدل الشعبي، ثم جاء تورّط السوفييت في أفغانستان ليمنح الطرف الأول فرصة تجييش الناس ضد السوفيات، وكان أن انتصرت هواجس الهوية على الأبعاد السياسية، ومالت الغالبية من المسلمين ضد الاتحاد السوفياتي، حتى وهم يكرهون أمريكا.
وكان ما كان بعد ذلك، حيث تحوّل الموقف بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وصارت أمريكا هي العدو الأكبر؛ بخاصة بعد انتفاضة الأقصى (2000)، وهجمات سبتمبر (2001)، وصولا إلى احتلال العراق وأفغانستان، وكان العداء هو ذاته عند إيران الشيعية، وعند القوى السنية بكل ألوانها، فيما بقيت أكثر الأنظمة مع أمريكا.
اليوم يعود الجدل، ويجد المسلمون أنفسهم بين خيارات ثلاث، كلها معادية لأشواق المسلمين في الوحدة وفي الحرية وفي التحرر، بجانب انحيازها للكيان الصهيوني؛ على تفاوت بسيط في الموقف الأخير.
والأهم أنها معادية للهوية الإسلامية كهوية جامعة للأمة، بل هي تساند حرب بعض الأنظمة على التدين، بوصفه يمنح حاضنة لما يسمى بـ"الإسلام السياسي".
أين المفر في هذه المعادلة البائسة، وإلى أيّ تلك الأطراف سينحاز المسلمون؟
هنا طبعا سنعيش الفصام النكد بين الشعبي والرسمي في منظومتنا العربية والإسلامية، ليس بين المنظومة السنيّة والشيعية وحسب، بل أيضا داخل المنظومة السنيّة أيضا.
المتوقع بالطبع هو أن أمريكا وحلفاءها سيحاولون استقطاب المسلمين لصالحهم (مساعي الاستقطاب ستشمل الجميع، وهذا طبع الحرب الباردة)، وذلك عبر الكف عن شيطنتهم ومنع "الإسلاموفوبيا"، مقابل العمل على شيطنة الصين، ومن ثم روسيا إلى حد ما، والاهتمام الغربي بقضية "الإيغور" المسلمين يشير إلى ذلك، فيما يمكن ستعمل الصين على استقطاب المسلمين أيضا، وكذا روسيا، وإن لم يظهر شيء من ذلك حتى الآن، باستثناء الجزء المتعلق بالحالة الشيعية بالنسبة لروسيا والصين.
هذه السطور لن تحسم جواب السؤال، ذلك أن بقاء الصراع بين الأنظمة والشعوب، سيضيّع البوصلة دون شك، وستكون الأمة خاسرة، أيا تكن انحيازاتها
وما هو مطلوب من الناحية العملية هو تسوية إقليمية بين محاور المنطقة الثلاثة (العرب وتركيا وإيران)، توقف النزيف الراهن، وتستفيد من حالة التعددية القطبية في تنويع خياراتها، وأخذ مكان لائق في المشهد الدولي، وليكون الموقف من كل تلك القوى نابع من حسابات الأمة ككل، وعدم السماح لها باللعب على تناقضاتنا كأمة من أجل مزيد من الشرذمة والاستنزاف.
الأمر في حاجة إلى وقفة جادة من قبل الأنظمة، ومن كل القوى الحيّة، بحيث تجري عملية إعادة تقييم للمشهد القادم، وبناء استراتيجية ناجعة تصبّ في صالح الأمة، ولا تسمح بتكريس شرذمتها، وكل ذلك عبر مصالحات داخلية في كل قطر، ومصالحات على المستوى العربي والإقليمي، وفاعلية شعبية تليق بالمرحلة الصعبة.
الخلاصة أن الصراع القائم والقادم يمنحنا كأمة، فرصة كبيرة. وإذا ما أحسنّا قراءتها واستغلالها، فسيكون لنا مكان قادم مهم تحت الشمس، بجانب قدرة كبيرة على حصار المشروع الصهيوني، وصولا إلى تصفيته، بإذن الله