حالة الفراغ التي تعيشها المعارضة المصرية تتسبب في معارك من نوع خاص، معارك لا يستفيد منها طرفاها، بل كلاهما يخدم طرفا ثالثا بحماقة مخلصة، والغريب أن هذا الطرف الثالث عدو واضح لطرفي المعركة المزعومة، وهو يؤجج سعير هذه المعارك التافهة، ويوظف مؤسسات تنفق الملايين لضمان بقاء هذه المعارك التافهة حاضرة في مناسباتها التاريخية، أو في أي لحظة يبزغ فيها أي أمل في التغيير.
الفراغ يولّد حالة من الاندفاع للفناء، بلا تفكير في جدوى المعركة أو عواقبها، دون محاولة التفكير في المستفيد من إشعال هذه المعركة أو تلك، ودون محاولة تقييم المعارك السابقة (الناتجة عن الفراغ أيضا)، هل استفدنا من المعارك السابقة؟ أم أن عدونا ازداد تمكنا على الأرض، وازداد بطشا بنا جميعا؟
* * *
معارك الفراغ كثيرة، من أهمها:
معركة من المسؤول؟
ترى المتعاركين من شدة فراغهم يرمي كل منهم مسؤولية الكارثة على الآخر، وفي الوقت نفسه يضحك "الطرف الثالث" الذي أشعل الفتنة في غالبية الأحداث الكبرى المتنازع بشأنها.
ترى المتعاركين من شدة فراغهم يرمي كل منهم مسؤولية الكارثة على الآخر، وفي الوقت نفسه يضحك "الطرف الثالث" الذي أشعل الفتنة في غالبية الأحداث الكبرى المتنازع بشأنها
حتى بعد أن وقعت الطامة، ترى الطرفين بدلا من مواجهة الطرف الثالث.. يحملان الشعب مسؤولية الكارثة، فهذا يرى الشعب عبيدا للبيادة، والآخر يراه متخلفا، رجعيا، متأثرا بخرافات المتدينين، ويتناسى الطرفان كيف وقف هذا الشعب مع التغيير من خلال استحقاقات انتخابية متعددة، عزل فيها الشعب بوعيه كل أعضاء الحزب الوطني المنحل.
ويتناسى هؤلاء كذلك عشرات المليونيات التي شارك فيها هذا الشعب من أجل فرض أجندة الثورة على المجلس العسكري، وفي مليونيات أخرى كانت اعتراضا على الانقلاب العسكري.
* * *
معركة من الوطني؟
توزيع صكوك الوطنية كما يقال ليس ديدن النظام فقط، بل هو ديدن بعض التيارات الثورية التي ترى الوطنية حكرا عليها، وترى أي أيديولوجية إسلامية تنظر لمصر كجزء من العالم الإسلامي خيانة للوطن، والغريب أنها لا ترى ذلك في أيديولوجيات أخرى ترى مصر جزءا من كيانات أكبر، كالوطن العربي، أو كالحلم الاشتراكي!
* * *
معركة من في الجنة؟
شهداؤنا في الجنة.. وقتلاكم في النار!
فرز على أساس ديني، ومن خلاله يتم تهميش كل صاحب دين مخالف، أو كل خارج عن الأيديولوجيا الدينية التي يعتنقها صاحب الفكرة حتى إذا اعتنق نفس الدين، وتصبح المعركة بفضل تدخل الطرف الثالث حريقا طائفيا، أو دعوة للتكفير.
من أسوأ الأعراض الجانبية لهذا الأمر هو نفور كثير من النشء من الدين، وتشويه صورة العالم الفقيه المتخصص، وتجرّؤ الناس على الثوابت دون دليل، (أقول "تجرّؤ دون دليل" لكي لا يفهم أحد أنني من دعاة تقديس كل قديم، ومن عبّاد التراث برغم ما فيه مما ينبغي مراجعته، بل أنا مع المراجعة، ولكن المراجعة تحتاج إلى علم وتخصص، المراجعة عملية في غاية الجدية، ولا تتم المراجعة بإطلاق كلاب تنهش في الدين بإيعاز من أجهزة المخابرات).
من أسوأ الأعراض الجانبية لهذا الأمر هو نفور كثير من النشء من الدين، وتشويه صورة العالم الفقيه المتخصص، وتجرّؤ الناس على الثوابت دون دليل
* * *
كانت هذه معارك الفراغ، وهي تشغلنا عن المعارك الحقيقية، وأهمها:
معركة التوثيق
توثيق تاريخ الثورة، وهو أمر ضروري.. صحيح أن هناك عدة روايات لكل ما حدث، ولكن توثيقها أمر في غاية الأهمية، وقد يكون هذا التوثيق سبيلا من سبل الخروج من المأزق الحالي، ذلك أن مقارنة الروايات التاريخية للأحداث تثبت أن هنالك طرفا ثالثا كان يخطط بشكل مدروس للوقيعة بين أبناء الثورة.
وكذلك توثيق الانتهاكات، وربما يكون تقصيرنا في هذا الأمر أكبر بكثير من تقصيرنا في توثيق تاريخ الثورة، وهذا الأمر سيبنى عليه الكثير حين يحين وقت تطبيق برنامج عدالة انتقالية ينقل الوطن من جحيم الاستبداد إلى عصر الحرية.
* * *
معركة المشروع
لن تقوم قائمة لفكرة التغيير السياسي السلمي في مصر دون مشروع متفق عليه بين السواد الأعظم من التيارات السياسية.
مشروع لا يُقصي فكرة، ولا يجرّم مشروعا، ولا يستثني تيارا، ما لم يتعارض مع ثوابت الوطنية المصرية. بمعنى أن كل المشاريع التي تحوّل مصر إلى مجرد خادم لمشاريع الصهاينة مرفوضة، وكل من يتخيل أنه يستطيع أن يكون وطنيا وصهيونيا في الوقت نفسه واهم، بل من الصعب أن يكون واهما.. هو على الأرجح عميل.. ويدرك جيدا أنه عميل.
* * *
معركة الاصطفاف
وتقوم على أساس تكوين جبهة وطنية واسعة، تتبنى مشروعا وطنيا واضحا، لا يقصي أحدا، وتراعي هذه الجبهة اختلاف الروايات التاريخية لأحداث الثورة، ولا تهدر طاقاتها في معارك تافهة توزع الوطنية أو الجنة والنار وتلقي بالمسؤولية على الآخرين.
كما أن هذه الجبهة لا بد لها أن تستأصل الزوائد الدودية السياسية التي أرهقت مسار التغيير بحرصها على مصالحها الشخصية الخاصة، أو مصالحها التنظيمية الحزبية الضيقة.
هذه الجبهة لا بد لها أن تستأصل الزوائد الدودية السياسية التي أرهقت مسار التغيير بحرصها على مصالحها الشخصية الخاصة، أو مصالحها التنظيمية الحزبية الضيقة
هذه الجبهة يمكن أن تكون مجموعة من الشباب أو الشيوخ، أو مجموعة من المؤسسات، أو خليطا من الشباب والشيوخ والمؤسسات.. ولكنها جبهة يحركها الإخلاص، وتعرف مشروعها جيدا، وتملك الموارد، ولها علاقاتها الداخلية والدولية، وتكتسب مع الوقت ثقة جماهير شعبنا العظيم التوّاق للتغيير.
إذا تركنا معارك الفراغ ونظرنا إلى المعارك الحقيقية التي ينبغي لنا أن نخوضها سنحقق الهدف السامي الذي ترنو له الأمة المصرية.. وإذا لم نفعل.. سنظل نستهلك طاقاتنا في معارك الفراغ، مانحين الطرف الثالث انتصارات سهلة، وبقاء آمنا في السلطة..
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين..