دكتورة ميساء المصري
يقال أن السخرية هي إنعكاس عاطفي وعقلي وان الأسلوب الساخر في الطرح هو دلالة تجمع الفكرة بالنطق بالضحك ليصل المعنى للعقل ..ومن هنا أبدأ, إذ ذهبت لزيارة أمي قبل أن تفرض الحكومة علينا حظر التجوال , حتى أطمئن عليها , قبل أن (نكورن) مع أننا دخلنا جميعا فيما يسمى (التكرون الهلوسي) عن بعد , المهم وجدت أمي حفظها الله متأهبة مستعدة للدفاع مرتدية قناعا أبيضا ناصعا يغطي وجهها الطيب وتعابيرها الحانية.
كانت أمي دائما تنتظر زياراتنا بكل الفرح , لكنها هذه المرة كانت عابسة غاضبة.
– خير يا أمي .. شو في ؟
لم تجِب أُمي .. فكررت سؤالي : – أمي بدك شي ..محتاجة شي؟
نظرت لي مغتاظة وكأنّها تغمز لي بعينيها الخضراوتين المتعبتين ، غمزات حملت دلالات كثيرة , أرعبتني وجعلتني أضرب أخماسا بأسداس وفهمت أنها تدعوني لإجتماع عاجل في المطبخ .
وكان الرحيل بإتجاه المطبخ حيث جاء عتابها لي على إنتباهي المتاخر لتلك الغمزات ، بـحاجب واحد….فقلت لها متوجسة : أمي شغلتي بالي , ياساتر شو في ؟؟
تفاجأت بها تنزع قناعها وكأنها تعلم أنه لا يفيد وقالت بحزم :
– شوفي ماما …الحكومة أعلنت قانون الدفاع وأنا من حقي أعلن قانون دفاع لبيتي ولصحتي أنا وأبوكي , قولي لأخوانك الي كل شوي جايين، ولهاي أُختك”التانية السهونه” ، إني ما بدي حدا يجي عندي، و “يعدوني” ، وخليهم يتركوني في حالي انا وأبوكي , إحنا كبار بالعمر , والي فينا مكفينا .
جاوبتها بصوت يكاد يسمع : يا ماما …إحنا بدنا سلامتكم , ومن خوفنا عليكم , ويعني على الأقل بنونسكم, أحسن من هالاخبار 24 ساعة ، في هالظروف الصعبة.
هنا شاهدت لمعة في عيون أمي , ثارت في وجهي ، والشرر يتطاير من عينيها الطيبتين :
– وِلَك ما بدنا حدا . شو إبتليت فيكم أنا , شو هالهم الي أكبر منا . يعني عمرنا راح يوصل للثمانين ، وتيجوا انتو تعدونا ، والموت بكورونا كمان يعني مو عالبال ولا على الخاطر ولا حتى الواحد يندفن متل الخلق , ولا سخام ويمكن يدفنوا الناس بالصحراء !!!.
-لا يا ماما شو هالحكي , بسم الله عليكم انتي والحج وربنا يحميكم يارب.. بعد عمر طويل ان شاء الله.
ولأنني ظننت أنها قد هدأت قليلاً .. قُلت : بس يا أمي أخواني واختي ماعندهم كورونا ؟؟؟.
أجابت أُمي : بعرف بعرف .. بس نسوانهم عندهن. وِحدة منهن من الصبح بالأسواق و كان وجهها أصفر مثل الكركم ،.. والثانية أُمها بحسها بتِكرهنا ، ومراح ترتاح إلا لتِفْنينا فَنْي .. وهاي أُختَك زوجها بس يجي بيقولك علي حرارة وبيرجف ، يمكن فيه فشل رئوي !!!!!!الشغله بالعقل بدها تخطيط ..حظر مش أكتر.
أنا وأخواني وشقيقتي ، ذهبنا كل إلى بيته .. تاركينَ أُمي ووالدي لوحدهما ، في بيتهما العامر ، والقناع شديد البياض بلا غمزات ولا لمزات ..وكل ما تمنيته لهما السلامة كسلامة الوطن الذي نسكنه جميعا ..مع غصة في القلب وفكرة في العقل تجول بخاطري حول ما يغتالنا, ولا تفارقني صورة تلك المسنة الإسبانية المصابة بالفيروس والتي تجاوز عمرها ال88 عاما , حيث طردتها المستشفى لأنها تريد توفير مكان لمن هم أقل سنا . ليصبح خوفنا من إستمرار الوباء، على هذا الكوكب من أن نسمع عن كمامات توزع على دين دون غيره ، أو ربما دواء صمم على لون بشرة محدد.. أو ربما تصبح هنالك لوائح أفضلية للقبول في المشافي ..لمن فقط يستحقون العيش وفقا لقوانين متحجرة، حقيرة تشبه بشريتنا.
في حرب الكورونا الشعوب هي نفسها , سارعت لتأمين لقمتها في عزلتها الإجبارية ..لكن إختلفت الحكومات والقوانين…وفي حرب الكورونا كذلك الأديان هي نفسها.. لكن إختلف حجم المزاودة حول الدين…من أن نصلي جماعة أم أنّ الإيمان بلا نظافة الروح ناقص..؟؟؟ ونسي المزاودون , ذلك الطفل السوري الذي قال سأخبر الله بكل شيء ….ويبدو أنه فعل ,….وهم ماذا فعلوا ؟؟؟؟؟
نحن اليوم يقتلنا الخوف على أطفالنا من هذا الفيروس المجهري , وللمقاربة المحزنة أن غالبية أطفال العرب جزء منهم جائع وحافي القدمين في زمن كساء المساجد و كانتونات الغذاء و الأحذية…وجزء مشرد بلا سقف ولا غطاء محسوب على طرف من الأطراف المتصارعة أو ملقى على حدود دولية أو تقطعت به السبل كطفل إنتهت صلاحية مواطنته . وجزء أخر منتهك الحقوق وبأحسن الأحوال مدمر إنسانيا تحت أقنعة إجتماعية و سياسية أو دينية…وجزء أخر مبكي كل ما ينتظره أن يظهر في برنامج مواهب أو أن يحطم الرقم القياسي في لعبة الببجي …
تاه أطفالنا وتاه شبابنا وتاهت شعوبنا ودولنا ….من حرب تلد أخرى ..
حروب تقليدية مباشرة , وأخرى أدواتها سرية …
وحروب بالوكالة..وأخرى مساهمة عامة …
وحروب باردة. وأخرى متجمدة , ومنها من تقترب الى حد الغليان .
وحروب إقتصادية شرِسة .. ستقسم الأسواق ، والعملات ، وحروب سعرية ضارية ، أهمها حرب النفوط والدماء الزرقاء والأرصدة السوداء والعباء البيضاء والرمال الذهبية .
وحرب الفيروس التي يبدو أنها حرب تصفّي حسابها معنا (كأفراد) ،قبل أن تصفي حساباتها مع الدول. تصفية الحسابات بين الدول نفسها المتقدمة منها والمتخلفة من جهة أخرى ، وستتحول الأرض إلى عالَمِ جديد ، بقوانين جديدة ، وقواعد لعبة جديدة ,عالم سندرك فيه معنى عدم المعرفة وتطاول الآخرين علينا وتدهور الإقتصاد وعجز الموازنة و الفقر والجوع والجهل والتبعية.. وأنعدام الأفق والحنكة السياسية .
عالم الأقوياء الذين لن نفهم منهم شيئا الى الأبد , والضعفاء …وحدهم من سيهلكون .
كاتبة اردنية