الدكتور وائل عواد
كثُر الحديثُ في معظم أرجاء الكرة الأرضيّة حول فيروس كورونا ليصبح على لسان كل النّاس وقلّما تجد إنساناً لا يتحدّث عنه، أو لم يرسل لك نصائح قد استلمَها من أحدهم لا تزيد عن خلطة الفول والتسقيّة وطبقٍ جديدٍ على وسائل التّواصل الاجتماعي من مطبخ أم علي وأم النور وأم عمروأم إلياس إلى أم المطابخ. لقد بدأ المشعوذون وتجّار الدين والمنظّرون ينشرونَ اجتهاداتهم وتحليلاتهم حول الفيروس وكيف تفشّى ولماذا ومن يقف وراءهُ، وكلٌّ يغني على ليلاه. الجميع خائفٌ والجميع عالمٌ متفلسفٌ ومتحذلقٌ، ولا أحد يملك المصلَ الطبيَّ للمعالجة، بل بحوزته مصلٌ اجتماعيٌّ دينيٌّ ونصائحُ باليةٌ زادت من الوضع سوءاً وتعقيداً، وأدّت إلى ارتفاع نسبة الشّحوم وضغط الدم والأرق والهلع وغيرها من العوارض سببها الخوفُ والجهلُ من فيروسٍ لا تراهُ العينُ.
لم يقتصر ذلك على العامّة بل تعدّاهُ إلى صنّاع القرار الذين يسرّبون الأخبارَ الكاذبةَ ليتبنّاها البعضُ ويتمَّ نشرُها للإساءة إلى حكوماتٍ ودولٍ لا تروق لهم. وشنّ بعض السكّان في العديد من الدّول هجوماً عنصريّاً على الصّينيّين وقاطعوا بضائعَهم ومحلّاتِهم التجاريّةَ وحرّموا الاختلاط بهم. ووصل الأمرُ لدى البعض بمطالبة حكوماتِهم بطرد الصّينيّين من بلادهم إلى أن أصابَهم البلاءُ، وانتقلَ الفيروسُ إلى قارّتهم لتصبحَ المركز الأساسيّ لانتشاره. بيدَ أنّ هذه الدعاياتِ السّخيفة لم تنجح بزرع العداء والبغضاء فحسب، بل جنت على نفسها براقش كما يُقال من حكومات هذه الدول التي جعلت شعبها ينشغل بوقوع الوباء في منطقةٍ جغرافيّةٍ نائيةٍ إلى أن حلّت المصيبةُ فوق رؤوسهم وظهرت الأعطابُ والأخطاءُ، إذ تبيّن أن هذا الفيروس يصيبُ جميعَ بني البشر ليغدوَ وباءً عالميّاً يتطلّبُ جهوداً مكثّفةً من جميع دول العالم للبحثِ عن مضادٍّ لهُ لحماية البشريّة جمعاء. وقد وضعت الطريقةُ التي بدأ ينتقل بها الفيروس من قارّةٍ إلى أخرى الجميعَ تحت سقفٍ واحدٍ، وأجبرتنا على البقاءِ في منازلنا والتقيّد بالحجر الصحّيّ الذاتيّ وعدم الخروج إلا للضرورة القصوى . ولم تنفع العباراتُ السياسيّةُ والعنصريّةُ بإعطاءِ الفيروس طابعَ دولةٍ كما سمّيَ “فيروسٌ صينيٌّ”، وعادت البضاعةُ الصينيّةُ لتكونَ مجدّداً المخرجَ الآمن الضامن والشافي لهذا الوباء الجرثوميّ والاجتماعيّ الأكثرَ خطورةً. وتحاولُ جميعُ الدّول الآن الاستفادةَ من التجربة الصينيّة في احتواء الانتشار والبحث عن عقارٍ طبيٍّ للتخلّص منه. وفي الوقت الذي يتّهم العالمُ الصّينَ بتقليد كافّة الماركات والمنتجاتِ العالميّة، تتوجّهُ أنظارُ الجميع الآن إلى التنين الصينيّ للحصول على عقارٍ طبيٍّ رخيصٍ لمحاربة هذا الفيروس، وبذلكَ انقلبَ السّحرُ على السّاحر.
تعقّم وتوكّل يا ابن آدم
في الوقتِ الذي انشغلَ فيه العالمُ بالوباءِ، كان تجّار الدّين يطالبون بالإبقاء على دور العبادة مفتوحةً امام المصلّين، وكأنّ الأمر بهذه البساطةِ، غير مكترثين لحجم الكارثة البشريّة، إلى أن بدأ الخطر يصيبهم هم بالذّات .
تمكّنت كلٌّ من الصّين وسنغافورة وكوريا الجنوبية من احتواءِ المرضِ والحدّ من انتشارهِ، ولعلّ الدرس الأوّل للتعلّم هو خطّ الدّفاع الأساسيّ بنشر المعلومات الصحيحة عن عدد الإصابات والمناطق الموبوءة والعزل التامّ للمصابين وعدم السّماح بالاختلاط والتنقّل والسّفر. وطرحت إحدى المحطّات المرئيّةِ سؤالاً خلال مقابلةٍ أجرتها معي عن الفرق بين الأنظمة الدكتاتوريّة والديمقراطيّة في التّعامل مع الفيروس، ولماذا نجحت الصين بينما فشلت دولٌ “متحضّرةٌ وديمقراطيّةٌ”؛ إنّهُ تساؤلٌ تصعبُ الإجابةُ عليهِ في حالات الطّوارئ هذه، ولكنّ النّاسَ جميعاً اتّفقوا على أنَّ النّظامَ الحديديَّ في الصّين استطاع إقناع شعبهِ وفرض حجرٍ صحيٍّ لأكثر من 60 مليون شخصٍ، ولم تكترث الحكومةُ الصينيّةُ لانتقادات لجان الدّفاع عن الدّيمقراطية و حقوق الإنسان، ونزل الجيشُ الصينيُّ ليفرضَ الأوامر بالقوّة ويعاقب المخالفين، كما شنَّ حملةَ توعيةٍ ضخمةٍ مستفيداً من تكنولوجيا المعلومات في نشر الخبر وتشخيص المصابين ونقلهم وعزلهم وإعمار المشافي الخاصّة لمعالجتهم خلال فترةٍ زمنيّةٍ وجيزةٍ؛ بينما عجزت الدّولُ المتحضّرةُ والدّيمقراطيّاتُ الباليةُ عن منع الانتشار. وعرّت الأزمة النّظامَ الصحيَّ والاستعداداتِ الطبيّةَ لمواجهة انتشار الوباء في الوقت التي تنفق فيه هذه الدّول ملياراتٍ من الدّولارات لتحديث أسلحتها النووية والبيولوجيّةِ والجرثوميّة لقتل بني البشر، كما لم تستطع أن تحميَ مواطنيها بشكلٍ كاملٍ من الوباء، ولا حتّى أن توفّر له مستلزماتِه الضروريّةَ!
تقاعست العديد من الدّول في محاربة الوباء، بينما تستحقُّ دولٌ قلّةٌ الثّناءَ ومنها سنغافورة، إذ كانت حكومة سينغافورة من أوائل الدّول التي حاربت انتشار الفيروس، وسارعت إلى حشدِ الدّولةِ لحجرٍ كاملٍ للدّولة الصّغيرة وسط رضىً شبه تامٍّ من السكّان عن خطوةِ الحكومة التي أثبتت فعاليّتها، كما جنّدت جميعَ وسائل التّواصل الاجتماعيّ لنشر الأخبار الصّحيحة عن الفيروس وتوعية السكّان، وفرضت عقوباتٍ صارمةً على من يخالف التّعليماتِ ويروّجُ لأخبارٍ كاذبةٍ ويبثّ الذّعر في نفوسِ المواطنين، وحثّت المواطنين على ضرورة التّعاون والتقيّد بالتّعليمات بالكاملِ. وقد تمّت معالجةُ المصابين، ولم تُسجّل حالةُ وفاةٍ واحدةٌ.
تمكّنَ علماء الصّين من تحقيق إنجازٍ مبدئيٍّ في محاربة الفيروس، وشعر الأطبّاء في مدينة ووهان، حاضرة المقاطعة، بنشوة الانتصار بعد نجاحهم في معالجة المصابين والحدّ من انتشار العدوى، وبدأ السكّان بالعودة إلى عملهم تدريجيّاً على الرّغم من التّحذيرات من هجومٍ ثانٍ للفيروس .
والآن، اقتنعَ العالمُ أنّ هذا الفيروس وباءً عالميّاً لابدّ من مجابهته بجميع الطّرق الطبيّة والعلميّة المتاحة، وانكبّ العلماءُ في المخابر بحثاً عن مضادٍّ حيويٍّ له في معظم الدّول من الصين وكوريا الجنوبية وأستراليا وإيران وإيطاليا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وغيرها من الدّول ما عدا دولنا العربيّة التي تقفُ حتّى إشعارٍ آخر بانتظار هذه الدّول لتقومَ بإنتاجهِ ليقوموا بشرائه منها!
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ العديد من دول العالم كانت مستعدّةً طبيّاً وصحيّاً لمواجهة المخاطر والكوارث، لكنّ هذا الوباء فضحَ التقصير في الاستعدادات وكشفَ المستور .
رُبّ ضارّةٍ نافعةٌ – النّظافة من الإيمان
تحاولُ بعض الحكومات استغلال الوباء لمنع التجمّعات والتّظاهرات وتنفيذ مآربها السياسيّة وتطبيق أجندتها الخاصّة خصوصاً هنا في الهند، حيث اتّهمت أحزاب المعارضة الحكومة باستغلال الظّرف القائم لقمع الاحتجاجات ضدّ قانون الجنسيّة المثير للجدل . بيد أنّ الأوضاعَ الصحيّةَ والخطر المحدق في شبه القارّة الهنديّة دفعت برئيس الوزراء للبحث عن حلٍّ جماعيٍّ مع قادة مجموعة رابطة جنوب آىسيا للتعاون الإقليميّ والمعروفة بالسارك، ووضعِ الخلافات جانباً للقضاء على الوباء الذي يهدّد خُمسَ البشريّة من سكّان الدّول الأعضاء في الرّابطة. ومن المتوقّع أن تُعلنَ حالةُ الحجرِ الصحيّ في الهند للحدّ من انتشاء الفيروس بعد ان بدأت الحالاتُ بالتّزايد .
تتشاطرُ دولُ جنوبِ آسيا العديدَ من التّحدياتِ والمخاطرِ والأوبئة والفقر والجهل، وتحتاجُ للتّعاون فيما بينها لمواجهتها والقضاء عليها وتحسين مستوى الحياة المعيشيّة والاقتصاديّة للسكّان الذين يشكّلُ 40% منهم أبناءُ الطّبقات الفقيرة. ويعدُّ قطّاعُ الصحّة الأقلَّ تطوّراً واستعداداً لمواجهة الكوارث الطبيعيّة في معظم دول الرّابطة بسبب التعداد السكانيّ الهائل، وثمّةَ جهلٌ وعدم اكتراثٍ لمخاطر هذا الفيروس القاتل، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تمّ في ولاية أوديشا غربي الهند، وفي عاصمتها بوبينشوار تحديداً، تشخيصُ مريضٍ مصابٍ بالفيروس، وكان هذا المريضُ قد قدمَ من إيطاليا إلى مطار نيودلهي واستقلّ المترو للوصول إلى محطّة القطار والعودة إلى مسقط رأسه على بعد أكثر من 1000 كم. كم سيكلّفُ شخصٌ واحدٌ الحكومةَ الهنديّةَ لحجره ومعالجته والبحثِ عن مصابين اختلطوا معه للحدّ من انتشار الفيروس؟ المأساة هنا تكمنُ في أنّ العديدَ من المشعوذين ينشرون أخباراً ملفّقةً وكاذبةً عن طرق المعالجة والوقاية، وهذا يزيدُ الطّين بِلّةً في الأنظمة الدّيمقراطيّة التي لا تتّخذ الإجراءاتِ الحاسمةَ بحقِّ المخالفين والجهلةِ، ومنع الاختلاط والابتعاد عن دور العبادة وغيرها من أماكن التجمع؛ ويقتصر الردُّ في تبادل الاتّهامات بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة مما يزيد السّخط الشعبيّ، إذ يدفع المواطن ثمنَ الخلافات وتبادل الاتّهامات بين صنّاع القرار.
الصّراع والتّنافس على حقوق الملكيّة للّقاح قيد التجربة
في حرب تحرير الكويت كانت هناكَ شعاراتٌ منتشرةٌ في دولة الكويت تمجّدُ بالولايات المتّحدة والرّئيس الأمريكيّ بالذّات مثل “عاشر بوش ونام في الحوش”، وهي إشارةٌ إلى الرّئيس الأمريكي آنذاك الذي خاضَ حربَ تحرير الكويت من الاحتلال العراقيّ. وقد أضفنا الفقرة الثانية وهي مصاحبةُ الرّئيس الأمريكيّ، دونالد ترامب، وسوف تنام في التراب (طبّ) على وجهك بعد أن يجرّدك من كلّ ما تملك بحجة حمايتك؛ فالرّئيس الأمريكيّ، دونالد ترامب ، يمثّل دولةً عظمى متّهمةً بالتّرويج وتصنيع الفيروسات في مختبراتها للكسبِ الماديّ حتّى ولو قُتلَ ثلثُ سكّان الكرة الأرضيّة. لقد دخلَ العالم في حالةٍ من الانحسار الاقتصادي تهددُّ البشريّةَ، وبدأت العديدُ من الشّركات تعلنُ إفلاسَها وتطردُ موظّفيها مع تفاقم الأزمةِ، والبقاءِ في المنازل، ومنع التجوّل، وإغلاق المحلّات التجاريّة وأماكن التّرفيه والمطاعم والمولات ودور السينما.
لن ندخل في نظريّة المؤامرة ومن وراء الفيروس، ولن نتحدث عن التّركيب البيولوجيّ والبروتينيّ للفيروس وكيفية انتقاله، فقد كتب الكثيرون عنه وأبدع الجهلةُ في ذلكَ، بل سنتركُ ذلك للجهات العلميّة الدّوليّةِ المسؤولة، ويمكن الحصولُ على المعلومات الصّحيحة من مصادرها الموثوقة فقط.
وأختتمُ بالقول أنّ خطَّ الدّفاعِ الأوّل هو التزامُ المنازل، والنّظافة، والعودة إلى الجذور في اكتشاف الرّوابط الأسريّة، وحلُّ الخلافات التي تجاهلناها بحجة انشغالنا بالعالم الخارجيّ، وإلى حينه دعونا نحبُّ بعضنا البعض …ويجب على الشّعوب أن تأخذَ العبرَ من الأزمةِ وتبذلَ قصارى جهدِها للبحثِ عن سبل التّعايش السلميّ وتطوير البحث العلميّ والذّكاء البشريّ لخدمة الإنسانيّة جمعاء؛ وهذه ليست تمنيّاتٌ، ولكنّها حقائقُ يتوجّب العملُ بها يداً بيدٍ بعد القضاء على هذا الوباء .
باحث وصحفي سوريّ الأصل مقيم في الهند