موسى العدوان
العنوان الذي يتوج هذا المقال، هو نداء أطلقه الزعيم الهندي المهاتما غاندي، في ثلاثينات القرن الماضي، لنشر سياسة المقاومة السلمية ( أللا عنف ) ضد الاستعمار البريطاني، الذي كان يخيّم على شيبه القارة الهندية من عام 1858 وحتى عام 1947. ورغم أن البلاد كان يطلق عليها ” درة التاج البريطاني ” إلا أنها لم تحكم مباشرة من قبل الإمبراطورية البريطانية، بل بواسطة المهراجات في الإمارات الهندية.
عُرف غاندي بلقب ( المهاتما غاندي ) والذي يعني في اللغة الهندية ( الروح العظيمة )، وهو ينتسب إلى عائلة محافظة لها باع طويل في العمل السياسي، حيث أشغل والده وجدّه من قبله، منصب رئيس الوزراء لإمارة ( بور بندر ). كان غاندي يحمل شهادة الحقوق من بريطانيا عام 1882، ثم عمل في جنوب أفريقيا لمدة 22 عاما، كرسها للدفاع عن حقوق المزارعين الهنود، والاضطهاد ومقاومة التمييز الذي كانت تمارسه بريطانيا هناك.
عاد غاندي إلى الهند عام 1915 وعاش عيشة متواضعة، في مجتمع يعتمد على الاكتفاء الذاتي، واعتاد أن يتناول الطعام النباتي ويرتدي اللباس الهندي البسيط. ولكنه من ناحية أخرى وجد بلاده تعاني من ظلم الاستعمار البريطاني، الذي قام بفرض الضرائب المجحفة، وممارسة الاضطهاد والتمييز بين أفراد الشعب، ومنع الهنود من حق التصويت والانتخاب. فبرز غاندي كقائد للمقاومة السلمية عام 1919، واستطاع أن يستقطب المنظمات السياسية الهندوسية والإسلامية، فتلقى تأييدا قويا من الزعيم المسلم عبد الغفار خان، الذي دعا أتباعه المسلمين إلى مقاومة العبودية البريطانية،على قاعدة أن لا عبودية في الإسلام.
وضع غاندي نصب عينيه استقلال الهند وتخليصها من السيطرة الأجنبية. فقاد لاحقا حملات مقاومة وطنية لتخفيف حدة الفقر، وزيادة حقوق المرأة، وبناء وئام ديني ووطني، ووضع حد للنبذ والتمييز، وزيادة الاعتماد على الذات اقتصاديا. وعليه قام بتأسيس حركة للعصيان المدني تجاه ظلم المستعمر البريطاني، والتي قامت على الابتعاد عن استخدام العنف. تلك الحركة التي كانت فيما بعد، ملهمة للشعوب في كفاحها من أجل الحرية والاستقلال في مختلف أنحاء العالم.
كانت مطالب غاندي لوقف العصيان المدني تجاه الحكم البريطاني تتمثل في الآتي : التحريم الكامل للكحول، تخفيض الضرائب على الأراضي، تخفيف الإنفاق العسكري بنسبة 50 %، إلغاء ضريبة الملح، والسماح للهنود بحمل السلاح. وفي 2 آذار 1930 وعندما لم تستجب الحكومة البريطانية لتلك المطالب، أعلن غاندي المقاومة ضد الحكم البريطاني في الهند من خلال العصيان المدني، متحديا أحد القوانين الأشد ظلما، ألا وهو ( قانون الملح لعام 1890 ). ذلك القانون الذي أعطى الحكومة لبريطانية احتكار صناعة الملح، وجعل من يمارس أي صناعة يدخل بها الملح، جريمة تستحق السجن لستة أشهر مع غرامة المالية.
بتاريخ 12 آذار نظّم غاندي مع 28 شخصا من أتباعه، مسيرة على الأقدام كانت بدأها من مدينة ( أحمد آباد ) وعبرت مقاطعة غوجارات متجهة إلى مدينة ( داندي ) على شاطئ بحر العرب، قطعوا خلالها ما يقارب 241 ميلا. كان الرجل الستيني يقطع ما يزيد على 10 أميال يوميا ولمدة 24 يوما، حيث وصل إلى نقطة النهاية. وخلال مسيرته بين المدن والقرى والأرياف، كانت شعبيته تزداد اتساعا بين المواطنين الهنود، وترفع روحه المعنوية. فتحولت المسيرة الصغرى إلى مسيرة كبرى ضمت آلاف المؤيدين لحركته.
وفي يوم 6 نيسان جرى احتفال كبير في تلال الملح قرب الشاطئ، حيث رفع غاندي كمية من الملح بيديه إلى أعلى وتركها تسقط على الأرض، وعلى وقع هتافات الجماهير المؤيدة له أطلق نداءه الشهير : ” أيها الهنود اصنعوا الملح ” احتجاجا على سياسة الحكم البريطاني الجائرة. فاستجابت الجماهير للنداء ، ونفذت عصيانا مدنيا في مختلف أنحاء الهند دام لما يزيد على 11 شهرا.
وخلال السنوات اللاحقة كانت حركات العصيان المدني، تتوقف أحيانا وتشتعل أحيانا أخرى حتى عام 1946، وجرى خلالها اعتقال غاندي لمدة أربع سنوات، ثم أفراج عنه في وقت لاحق. ولكن غاندي كان يفضل السجن على الحياة السياسية الرمادية. فكان يقضي أيام السجن بالقراءة والكتابة والتفكير، فكتب في أحد مقالاته : ” السجن هو أحسن الجامعات إذا عرف السجين كيف يطبّق دروسه “.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت المفاوضات بين حزب المؤتمر الهندي برئاسة غاندي، والحكومة البريطانية، عندما اقتنعت الأخيرة، بأنها لا تستطيع فرض سيطرتها على الهند في ظل تلك الثورة السلمية، التي شملت مختلف أنحاء البلاد. فأسفرت تلك المفاوضات عن استقلال الهند وانفصال الباكستان عنها في 15 / 8 / 1947. ومن المحزن أن ذلك الزعيم الذي كافح طيلة حياته لطرد المستعمر وتحقيق استقلال بلاده، أن يلقى نهاية حياته على يد هندوسي متعصب قام باغتياله.
لقد نجح غاندي في سياسة اللاعنف التي اتبعها، في إحياء الصناعات والحرف الهندية القديمة، والعودة إلى النول اليدوي للغزل، ودعا الهنود للامتناع عن شراء الأقمشة والمصنوعات الإنجليزية. وهكذا أصبح النول رمزا للتحرر وأداة ثورية تعبّر عن معانٍ سياسية واقتصادية سامية. ومن الأقوال الخالدة للمفكر والثائر للمهاتما غاندي ما يلي :
ـ الفقر موجود لأننا نأخذ أكثر من حاجتنا، لا أستطيع أن أكافح الفقر في وطن، غالبيته لا يجد قوت يومه، ولا أجرؤ على إلقاء خطبة عن القيم النبيلة وعن العدالة، وعدم التفرقة والمساواة، بينما أعيش في بلد به ملايين الفقراء.
ـ إنك لا تستطيع أن تساعد الناس حقا إلا إذا عشت مثلهم . . ساعد الناس على أن يفعلوا الأشياء بأنفسهم وأن يكتشفوا إمكانياتهم . . لا تحل محلهم.
ـ اللا عنف هو أعظم قوة متوفرة للبشرية، إنه أقوى من أي سلاح دمار شامل صنعته البشرية.
لقد ناضل ذلك الزعيم الهندي العظيم المهاتما غاندي سلميا، في سبيل تحرير بلاده من الحكم الأجنبي، وحقق حريتها واستقلالها، فأصبحت الهند اليوم، من أوائل الدول الصناعية المتقدمة في العالم.
وإذا ما علمنا أن الأردن حقق استقلاله الذي نفخر به، قبل الهند بعام واحد أي قبل 74 عاما من اليوم، فهل استطعنا بجهود قياداتنا المدنية، أن نفعل كما فعلت الهند ونصنع نجاحا معقولا، كي نأخذ موقعا متقدما بين دول العالم ؟ أم أننا مازلنا نزحف ببطء مع بقية الدول المتخلفة، ندعي التقدم والتطور ولا نلمس له أثرا ؟ الجواب معروف للجميع ولا يحتاج إلى عبقرية.
وفي الختام أقول: أيها الأردنيون: إصنعوا الملح.. وحافظوا على وطنكم من الذئاب المتوحشة!
فريق ركن متقاعد