الاتفاق الأمريكي الطالباني.. عندما يُعيد التاريخ نفسه

ثلاثاء, 03/10/2020 - 08:35

د. عبير عبد الرحمن ثابت
في الاتفاق الذى عقدته الولايات المتحدة الأمريكية مع حركة طالبان تكررت عبارة “إمارة أفغانستان الاسلامية التى لا تعترف بها الولايات المتحدة كدولة ” لقرابة العشر مرات. وتكرار العبارة بهذا الشكل يعكس حرص الولايات المتحدة الأمريكية على التذكير بأنها لا تعترف حتى اللحظة بأن إمارة الطالبان هى الحاكم الرسمى لأفغانستان؛ ولكن فى المقابل فإن توقيع الولايات المتحدة لاتفاق بهذا المستوى مع الطلبان هو إقرار بالواقع المفروض على الأرض واعتراف غير معلن بإمارة افغانستان الاسلامية (الطالبان). ولن يكون الاعتراف الرسمى الأمريكي العلنى إلا مسألة وقت فطبقا لبنود الاتفاق المعلنة والتى ستنسحب بموجبها القوات العسكرية الأمريكية وكل حلفائها ومقاوليها وشركاتها الأمنية من أفغانستان بحلول أغسطس/آب من العام الحالي؛ وخلال الفترة القادمة وحتى هذا التاريخ سيكون على الفرقاء الأفغان التوصل إلى اتفاق لإنهاء حالة الحرب الأهلية بين طالبان والحكومة الأفغانية برئاسة أشرف غني إضافة إلى زعيم الطاجيك المنشق على الحكومة عبدالله عبدالله؛ والذى يدعي فوزه بالانتخابات الأخيرة ويطعن بالتزوير فيها ولا يعترف بأحقية غنى فيها سيكون على أولئك جميعا الاتفاق على نظام حكم جديد توافقي. وهذا أحد بنود الاتفاق.
لكن الولايات المتحدة تدرك جيدا طبيعة المشهد السياسي المعقد فى أفغانستان منذ ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن؛ كما أنها تدرك جيدا أن من سيحسم هذا الصراع هم الملالى الذين يمتلكون السلاح وأن هذا الصراع لن يحسم إلا فى الميدان؛ وليس على طاولات التفاوض، وهذا ما كان يحدث دوما فى أفغانستان.
وعليه لقد اختارت الولايات المتحدة مجددا أن تتبنى نظرية هنرى كسنجر؛ والتى مضمونها أن شعوب الثقافات الشرقية؛ والتى من ضمنها شعوب الثقافة العربية الاسلامية هى شعوب ذات ثقافات كلاسيكية يلعب فيها الدين ورجاله دوره البطولة؛ وهذا وإن كان قولا يعكس جانبا من الحقيقة إلا أنه من جانب آخر يعكس عقلية ثقافية إمبريالية تعفي من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية نفسها من المسؤولية عن ما آلت له الأوضاع فى أفغانستان؛ كما أنها تحلها من مسؤولياتها الأخلاقية فى الدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان التى ما انفكت الولايات المتحدة تدعي أنها الراعي الرسمي لها.
إن الاتفاق الأمريكى الطالبانى هو فى الحقيقة اتفاق استراتيجي يعيد إلى الأذهان حقبة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي عندما تحالفت الحركات الاسلامية فى أفغانستان مع نظيراتها فى العالم مع الولايات المتحدة لمواجهة الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان؛ واليوم نرى اللبنات الأولى لتحالف شبيه بين أصدقاء وحلفاء الأمس؛ والأهداف لا تختلف كثيرا عن سابقاتها فالخطر الاستراتيجي السوفيتى بالأمس أصبح اليوم صينى وروسي وإيراني؛ وموقع أفغانستان الجغرافي والسياسي والعقائدى المذهبي هو موقع استرايجي حيوي للغاية فى الاستراتيجية الامبراطورية الأمريكية المستقبلية، ووجود قوة حاكمة ومسيطرة على أفغانستان كطالبان ومتحالفة مع الولايات المتحدة هو فى حد ذاته مكسب كبير للولايات المتحدة التى لم يفلح حلفائها من الأفغان الآخرين على مدار18 عام من بسط سيطرتهم على البلاد وحكمها فى ظل وجود حركة الطالبان التى تتبنى الفكر الجهادى المتشدد؛ والتى تفتقر إلى أى مشروع أو حتى لأى رؤية سياسية لمستقبل الدولة فى أفغانستان .
وحقيقة ما جرى فى هذا الاتفاق هو أن الادارة الأمريكية بزعامة ترامب قررت استعادة أحد ميكانزمات الحرب الباردة عبر إدارة صراعها عن بُعد؛ وقد بات من الواضح اليوم أن حلفاء الولايات المتحدة السابقين سوف يكونون أول قرابين هذا الاتفاق؛ وهذا ما تؤكده عملية التفجير الأخيرة فى العاصمة؛ والتى استهدفت حفل تأبين حكومي رسمي وراح ضحيته العشرات؛ والسنوات الأربعة القادمة خاصة إذا ما حصل ترامب على فترة رئاسية ثانية سوف تكون كاشفة للأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة من هذا الاتفاق؛ والتى تنطوى على تطويق إيران من الشرق بحكومة سنية متشددة إضافة إلى تكريس عقبة للصين على طريق الحرير البرى بالإضافة إلى تكريس بؤرة تهديد لروسيا تذكرها دوما بالماضي الأليم.
وأفغانستان تحت حكم الطالبان ستكون مغناطيس لجذب كل أعداء الإيرانيين والصينين والروس متى ما أرادت الولايات المتحدة ذلك فى أى مرحلة من صراعها الامبراطورى خلال العقود القادمة؛ ولكن ليس الغريب فى الأمر أن يعيد التاريخ نفسه وتقبل الولايات المتحدة أن تتحالف مع من كانت تصفهم بالإرهاب ومن تتهمهم فى المشاركة فى مقتل ما يزيد عن 3000 أمريكى فى برجي التجارة العالمي بنيويورك؛ ولكن الأغرب من هذا حالة السذاجة السياسية التى يتمتع بها كل الطيف السياسي الأفغاني ودون استثناء؛ والتى يدفع ثمنها دوما الشعب الأفغاني.
وفى الختام نتمنى على الفرقاء الفلسطينيين أن يستفيدوا من هذا المشهد الأفغاني المعبر عن طبيعة النظرة الإمبريالية للقوى العظمى للشعوب الشرقية والإسلامية بوجه خاص؛ وهو مشهد يشبه فى بعض جوانبه جانب من المشهد الفلسطيني؛ خاصة أن الراعي الرسمي والوسيط فى هذا الاتفاق هو لاعب نشط فى الساحة الفلسطينية. لذا على الفلسطينيين أن لا يكونوا أدوات فى يد تلك القوى تستخدمها وتستبدلها طبقا لمصالحها ومصالحها فقط .
أستاذة علوم سياسية وعلاقات دولية

الفيديو

تابعونا على الفيس