زياد حافظ
الذكرى الثانية والستون لإقامة الجمهورية العربية المتحدة ليست مناسبة لاستذكار حقبة كانت مليئة بالآمال فقط بل هي مناسبة للتأكيد أن تلك الآمال ما زالت موجودة. بل ربما هي أكثر من آمال إذ أصبحت أقرب للتحقيق الآن. وذلك خلافا لما يظّن المشكّكون واللذين يتلذّذون بجلد الذات تحت عباءة “الموضوعية” أو “الواقعية” أو أي مصطلح يمكن استحداثه لتبرير ثقافة الهزيمة المترسّخة ولتبرير عدم الإقدام على ما يلزم أو لتبرير الاستسلام لمشيئة تحالف الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية. أولئك “الموضوعيين” يعتبرون أن حالة التجزئة والتمزّق قدر لا يمكن تجاهله خاصة في غياب ما يُسمّونه ب “المشروع العربي”.
وإذا كنّا نعتقد أن معركتنا المفصلية هي مع العدو الصهيوني وحماته من الامبريالية والرجعية فإن خلافنا لا يقلّ حدّة مع “المشككين” الذين يعتبرون أنفسهم شهداء على زمن الانحطاط والتراجع وغياب أي آفاق للنهوض. فهؤلاء لا يرون التحوّلات في موازين القوّة على الصعيد العالمي والإقليمي. ولا يرون حتى التغييرات التي حصلت على الصعيد العربي وخاصة ظاهرة المقاومة التي ما زالوا يقلّلون من شأنها. ولا يستطيعون أن يروا الإنجازات التي تحقّقت في الميدان ضد العدو الصهيوني سواء في لبنان أو في فلسطين. فالعدو الصهيوني الذي كان يسرح ويمرح دون أي رادع لم يعد باستطاعته التقدّم شبرا واحد في لبنان أو في قطاع غزّة بينما أصبح يعيش في “غيتو” المناطق المحتلّة خلف جدار يعتقد أنه سيحميه من انتفاضة شعب فلسطين أو ضربات مقاومته. ولا يستطيعون أن يروا أن سياسة المبنية على المعتقد الخاطئ أن الولايات المتحدة تملك 99 بالمائة من أوراق اللعبة وأن الحصول على الرضى الأميركي يمرّ عبر إرضاء الكيان الصهيوني، أي أن ذلك الرهان رهان خاطئ لم يعط أي نتيجة سواء في مصر أو في الأردن أو عند منظّري اتفاق أوسلو أو في دول الخليج. لا يرون في هذا الحال أن الكيان الذي أوجد من أجل حماية مصالح الاستعمار الأوروبي ومن بعد ذلك الامبريالية الأميركية أصبح بحاجة إلى حماية لا تستطيع الولايات المتحدة تأمينها رغم كل العنتريات والكلام عن الترسانات الفتّاكة التي تملكها. ومن سخرية القدر أن أصبح الكيان يفتخر بدعم بعض الأنظمة العربية ك “إنجاز” يمكن الاعتماد عليه بينما تلك الأنظمة ما زالت تعتقد أن الكيان هو من يحمي عروشها وكراسي الحكم فيها.
يقولون لنا أن الوحدة غير ممكنة بسبب معاداة الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص ومعها الصهيونية العالمية والرجعية العربية القابضة على منابع النفط والمال وبالتالي يدعون إلى “الواقعية” والابتعاد عن “المغامرات غير المحسوبة”. لا يستطيعون أن يتصّوروا أن سياسات “الواقعية” و”خيارات السلام” لم تؤدّ إلى الازدهار والاستقرار بل العكس إلى المزيد من البؤس والتوتّر. لا يستطيعون أن يفهموا أن لا تنمية ممكنة ضمن أطر الحدود التي رسمها المستعمر الأوروبي قبل أن يضطر إلى الخروج من الباب ليعود ويدخل من شبّاك التبعية الاقتصادية وأداته الفساد المتفشّي بين الزمر الحاكمة. لم يستطيعوا ان يفهموا أن معظم الدول التي رسم حدودها المستعمر الأوروبي رسمها لتكون دولا فاشلة إذا ما عبّرت عن رغبة استقلالية. لكنّها نجحت ان تبقى مع منظومة فساد واستبداد إذا ارتضت بالتبعية السياسية والاقتصادية للغرب بشكل عام وللولايات المتحدة بشكل خاص ومعه الكيان الصهيوني والرجعية العربية. فالاختباء وراء بناء الدولة الوطنية وعدم مواجهة العدو الصهيوني والهيمنة الأميركية ساهم في تكريس التجزئة التي أرادها المستعمر القديم والجديد.
لم يفهموا أن الدعوة إلى الليبرالية السياسية والانفتاح كإحدى البدائل عن الوحدة دعوة زائفة مهمّتها تكريس هيمنة زمر الفساد والتبعية والاحتكار وذلك على حساب الوطن واستقلاله وتنميته وإبعاد أي عدالة اجتماعية وإلغاء الثقافة العربية وموروثها التاريخي والتنكّر للهوية وللغة وتشويه الدين. لم ينتبهوا أن التنمية المستدامة غير ممكنة في دولة التجزئة أو عبر “الشراكة” المزّيفة مع الغرب. لم ينظروا إلى أن النموذج الاقتصادي المتبع هدفه إدامة التوتر الاقتصادي والاجتماعي لمنع الشعوب عن مواجهة التحدّيات الكبرى كالاستقلال الوطني والحفاظ على الهوية والتجدّد الحضاري. فإلهاء الناس بالقضايا المعيشية وخلف قضايا وهمية افتراضية تملأ الفضاء الثقافي هو لتحويل الانتباه عمّا يٌحاك ضد الأمة بدءا بما سمّوه ب “صفقة القرن” مرورا بدعوة “القطر أوّلا” على قاعدة أن “أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة” لتكريس التجزئة والتبعية.
لم ينتبهوا أن المستعمر القديم الجديد في تراجع بنيوي واستراتيجي يقابله محور صاعد يرفض الهيمنة الأميركية. ومحور المقاومة في الوطن العربي جزء من ذلك المحور وإن كانت له، أي محور المقاومة، خصوصيات تميّزه عن المحور الصاعد المتمثّل في الكتلة الاوراسية بقيادة الصين وروسيا. لم يلاحظوا أن الولايات المتحدة لم تربح حربا واحدة بعد الحرب العالمية الثانية وهي الآن متورطّة بشكل أو بآخر بسبعة حروب لا تدري كيف تنهيها أو تخرج منها مع الحفاظ على ماء الوجه. لم يستوعبوا أن الكيان الصهيوني في تراجع عسكري منذ 1967. فهزم في معركة العبور(1973) وخسر حرب لبنان (2000 و2006) وخرج منه دون أي قيد أو شرط أو مفاوضة. كما خرج من غزّة ولم يعد قادرا على إعادة احتلالها (2008، 2012، 2014)، فلم يعد قادرا على مواجهة المقاومة إلاّ بكلفة عالية لا يستطيع تحمّلها لا بشريا ولا سياسيا.
كما أنهم لم يستوعبوا خسارة العدوان الكوني على سورية وفشل العدوان العبثي على اليمن وترهّل قوى التحالف العدواني عليه. لم يروا إلاّ احتلال العراق وتمزيق ليبيا وانفصال السودان وهرولة بضع الدول للصلح مع الكيان الصهيوني وانتشار جماعات التعصّب والغلو والتوحّش في مختلف الأقطار العربية علما أنها فشلت في مشروعها العبثي. فالعراق يستعيد عافيته تدريجيا بعد مقاومة أوقفت المشروع الأميركي في العراق وبعد دحر جماعات التعصّب والغلو والتوحّش التي تنتقل من هزيمة إلى هزيمة في العراق وسورية وتضيق الأرض العربية بها. فهي أصبحت وقود التفاوض بين القوى المنتصرة في المنطقة إما لإنهائها أو إما لإعادة تصديرها إلى من موّلها ودعمها عسكريا وسياسيا. وهذه الجماعات مرتبطة بالمحور المتراجع استراتيجيا وبالتالي لا أفق لها كما لا أفق للعدو الصهيوني الذي برهن فعلا أن كيانه أوهن من بيت العنكبوت. أما الهرولة لبعض المطبّعين فهي بين مطرقة الضغط الأميركي وسندان رأي الشعوب عندها الرافضة للتطبيع رغم الضجيج الإعلامي حوله من قبل قيادة الكيان.
الوحدة قادمة لأن شعوب الأمة موحّدة في مواجهة القضايا المصيرية بدءا بقضية فلسطين وصولا إلى رفض التبعية للخارج. فالمبادرة بيدها اليوم وليس بيد الحكّام الذين بدأوا يخشونها أكثر مما يخشون الولايات المتحدة. وإذا كانت فلسطين توحّد جماهير الأمة وبما أن تلك الجماهير تدعم خيار المقاومة فهذا يعني أن البعد الوحدوي لهذه الجماهير هو بُعد مقاوم. لذلك نقول بأن متن المشروع العربي الذي هو وحدة الأمة هو مشروع مقاوم. هو مشروع يوحّد الجماهير ضد المحتلّ أولا، وضد الذي يريد فرض هيمنته على مقدّرات الوطن ثانيا، وضد الاستبداد الذي يدعمه المستعمر القديم والامبريالية الجديدة ثالثا، وهو ضد الفساد الذي يشكّل أداة الاستبداد رابعا. فالوحدة العربية آتية والدليل على ذلك أن جماهير الأمة خرجت لترفض صفقة القرن، وخرجت في اليمن تحت القصف، وخرجت في الجزائر والمغرب وتونس لترفض التطبيع مع الكيان، كما خرجت لترفض التبعية والفساد والاستبداد. فوحدة الجماهير مقدمّة لوحدة الحكومات. وكل ذلك رغم الحملات المغرضة ضد العروبة التي ينعوها موسميا! فالتجزئة قدر عندهم بينما الوحدة قادمة عندنا.
حاول أعداء الأمة نزع الهوية العربية عن الشعوب عبر استبدال خطاب الهويات الفرعية والدينية بالخطاب العروبي الذي يجمع بين مكوّنات الأمة. برهنت الوقائع خلال العقود الخمسة الماضية أن الخطاب العروبي الجامع هو الذي يستطيع الصمود أمام كل التحدّيات بينما الخطاب الديني، وخطاب الهويات الفرعية، وخطاب الليبرالية والانفتاح الزائفين، اصطدم بواقع الإقصاء والتجزئة. الخطاب العروبي في جوهره خطاب وحدوي بينما الخطابات الأخرى خطابات فرز وتجزئة. بالمقابل الخطاب العروبي الوحدوي يجمع بين كل مكونات الأمة مهما تنوّعت العرقيات والأديان، ومهما اختلفت المذاهب السياسية. وتجسيدا لتلك الحقيقة فإن صوغ المشروع النهضوي العربي الذي أطلقه مركز دراسات الوحدة العربية في هذه المناسبة بالذات في شباط /فبراير 2010 من قبل مثقفين وناشطين من مختلف المذاهب السياسية والفكرية دليل على أن العروبة جامعة لمكوّنات الأمة. ما يبقى هو تجسيدها السياسي عبر إقامة دولة الوحدة.
لذلك توجد مؤسسات تحمل ذلك الفكر وتلك الرؤية. فدور مركز دراسات الوحدة العربية كخزّان فكري وبحثي وعلمي لقضايا الأمة ساهم في بلورة الخطاب العروبي المعاصر. والمؤتمر القومي العربي وشقيقه المؤتمر القومي الإسلامي يحملان ذلك الخطاب ومفهوم الكتلة التاريخية لمواجهة تحدّيات الأمة الداخلية والخارجية. والمؤسسات الشبابية كمخيّم الشباب القومي العربي المنبثق عن المؤتمر القومي العربي وندوة التواصل الفكري الشبابي العربي على سبيل المثال وليس الحصر تعيد إنتاج الكوادر الحاملة للخطاب العروبي. وإذا أضفنا المنتديات القومية العربية الناشطة في العديد من المدن العربية نرى أن الخطاب الوحدوي ما زال حيّا وناشطا رغم الاتهامات بأنه لغة خشبية. فإذا كان ذلك صحيحا، أي ان الخطاب الوحدوي خطاب خشبي، فلماذا يستمر المشكّكون والأعداء في مهاجمته؟ من جهة أخرى، فإذا كان متن الخطاب العروبي خشبيا، فهو من خشب النخلة، وخشب الزيتون، وخشب الأرز، خشب أصيل يمتد إلى قرون عديدة وربما لما قبل التاريخ! كما هو أيضا خطاب المستقبل الذي يرى في الوحدة قوّة وفي القوّة نهضة، وفي النهضة تجدّدا حضاريا، ورسالة إلى العالم.
فيما يتعلّق بالوحدة نعي أن هناك مصالح محلّية تعارض الوحدة وفي مقدّمتها الرجعية العربية وأعوانها في كل قطر. فهي لا تنسجم مع الطرح الوحدوي لأنه يهدّدها ويذوّب رموزها في الوعاء الأكبر، وعاء الوطن العربي بأكمله. أولئك، مع المشكّكين، هم من يعملون على منع الوحدة في الحد الأقصى، أو تأخيرها في الحد الأدنى. لكن الحقائق المادية ستفرض حكمها. فالدولة القطرية، والأمثلة عديدة، لم تعد قادرة لا على حماية كيانها، ولا على حماية مواطنيها ولا حتى حكّامها، ولا على حماية حدودها. كما أنها لم تعد تستطيع القيام بالتنمية المستدامة والمستقلّة بسبب تدخّل الامبريالية وقوى العولمة التي تلغي الخصوصيات والموروث الثقافي بل تلغي المصالح الاقتصادية المحلّية التي هي من حقّ الشعوب.
لذلك، نستغل هذه المناسبة للتأكيد أن الوحدة ليست شتيمة ولا حلما طوباويا بل ضرورة وجودية لبقاء الأمة. كما أنها قدر على جماهير الأمة التي استطاعت رغم الغزوات الخارجية الحفاظ على الموروث التاريخي الذي يجمع. ومهمتنا اليوم هي أن نحوّل ذلك الموروث التاريخي الجامع إلى حقيقة مادية حيّة ومتطوّرة في الحاضر لنبني عليها المستقبل.
*كاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي