نادية عصام حرحش
بين حرية التعبير وبين وجوب اسكات الأصوات الملوثة للبيئة البصرية والسمعية، لا تزال الحرب تستعر، بين رافض لقرار المطرب هاني شاكر نقيب المهن الموسيقية، وبين مؤيد.
في السابق لم تكن هكذا مبارزة في فرض الآراء بين مؤيدة ورافضة لتأخذ مكانا. الانسان الطبيعي في أي مكان من ذائقته الحسية والسمعية والبصرية لا يمكن ان يحتمل سوء الأصوات التي كسحت استاد القاهرة عند إطلاق العنان لصوت مطربي المهرجانات في الفضاء المزدحم بالجمهور الذي كان يصدح مع الاغنية ومغنييها من كل الاتجاهات.
نفس الجمهور المدافع هو ذلك الذي جلس على مدار العقد الأخير امام شاشات التلفزيون وصوت لفرز أصوات المواهب من اراب ايدل للفويس للتالينت. تحولنا مع السنوات لخبراء ومقيمين للأصوات، وساهمنا برفع أصوات وانهيار أصوات تحت اسم المواهب وفخامة الأصوات.
ذلك المشهد للمغنين وسط الجماهير بإستاد القاهرة يمكن ان يكتب عنه الكثير. الكثير من الأسئلة احتلت فضاءات تفكيري بينما الالاف المؤلفة من الجماهير تصفق وتغني، حتى بدأ صوت المطربين بالنشاز الواضح مع كل صوت اصدروه. وكأن إرزيزا دوى وتساوت الأصوات في طنين أقرب الى نهيق.
ولأني لم أكن قد سمعت بالأغنية التي ملأت صفحات التواصل الاجتماعية وتعدت مشاهداتها المئة مليون، فكرت ان المطرب ومجموعته كان ينبغي ان يسجلوا قبل ان يخرجوا على الجمهور بأزيز خارق لطبلات الاذان. وفكرت ان نقيب المهن الموسيقية صاحب الصوت الدافئ والطروب كان محقا لإنقاذه اذاننا من هكذا أصوات برعاية مهرجانات وطنية الطابع. بالنهاية فإن الحدث كان وسط إستاد القاهرة. اكتظاظ للستاد كنا نتمنى ان يكون الحشد في مباراة تلئم صدع ما كان من آلام ماضية.
ولكن سرعان ما تحول الموضوع الى اخر في احقية المنع. فهل هؤلاء أكثر سوء من أصوات سيئة أخرى؟ هل هم أكثر خطر على المجتمع من الأصوات العالية والاجساد العارية التي تملأ الشاشات منذ سنوات؟ منذ تحولت اخاصمك اه وابوس الواوا لأيقونات الأغاني وصاحبتاها رمز الجمال ومبتغى الانوثة. لنعيش فيما بعد بمؤثرات كارثية من الأصوات والاشكال تبيع الاجسام وتصدر الانهيار الأخلاقي بمشاهدات اعلى فأعلى.
كنت قد تابعت الحفل الذي احيته كل من جنيفر لوبيز وشاكيرا، وكنت لا أزال أكون رأيا عن سبب تعريهما الفاضح بينما كان العرض مبهرا من ناحية الأداء ونتيجة لاجتهاد واستثمار حقيقي بعرض بهذه الجودة بحدث مهم لبطولة كروية. وفكرت ان تقليد الحدث باستخدام استاد القاهرة والانحدار بالاختيار من تعري الى نهيق كان بالفعل صادم. والاهم …بلا مباراة تتوسط الحفل ولا تنتهي به.
ولكن من انا لأبدي رأيي، فانا بالحقيقة لا أزال أفضل بكائيات هاني شاكر على حسب الاتهامات ونكد كلماته ودموعه على أغاني المهرجانات كما يسمونها. كنت حتى تلك اللحظة اظن ان أغاني او مطربي المهرجانات هم على شاكلة الموسيقى الشبابية مثل عزيز مرقة وتامر نفار وبشار مراد والفرق الشبابية التي تحاكي لغة الشباب وامالهم وتعبر عن آلامهم وترصد تأملاتهم وتطلعاتهم وحكاياتهم. ومنها ما هو مناسب ومنه ما هو غير ذلك على حسب الذائقة والمكان والزمان.
أغاني لا اسمعها ولا افهمها بالضرورة ولكن افهم تعلق الشباب بها. ولكن ما يجري من هكذا ظاهرة ابعد بكثير عما كنت اعتقد انه طرب مهرجانات. فطرب المهرجانات الذي يتم تداوله ليس فقط خطر ولكنه كارثة حقيقية. لم اصدق ان ما اسمعه وما اشاهده حقيقي. وصرت اسأل نفسي وبجدية ان كان هناك خلل بالمخدرات التي يتم تداولها بين الفئات الفقيرة بالمجتمع. فمنذ تحول محمد رمضان الى اسطورة، وصار المثل الأعلى للبلطجية على حسب تعبيره، انحدر الوضع بالتفكير بما هو شعبي وتحول الى بلطجة وعنف ومخدرات واستقواء وتنمر، صار بالنهاية جرائم مستفيضة.
عندما حصل الهجوم على فتاة في المنصورة ليلة رأس السنة في تجمهر الالاف وكأن الفتاة “سكر محلى” يجتذب اليه الذباب والدبابير للعقه، لم افهم ما الذي يؤدي بمجتمع الى هذا التدهور. مجتمع محافظ متحفظ ومتدين؟ كيف تحولت الفتاة بتلك اللحظات لكائن يمكن اغتصابه وانتهاكه وقتله لو لم ينقذها من كان لا يزال في عقله في تلك اللحظات؟ عندما سمعت كلمات الأغاني المختلفة التي يرددها هؤلاء، وعندما تم استبدال النشيد الوطني وآيات القرآن في طابور الصباح المدرسي بسكر محلي محطوط عليه كريما، فهمت كيف يتبعثر هؤلاء في الشوارع ليصبحوا أدوات عنف وجريمة. فبين صنف سام مدمر لما يزال موجود بالعقول من تعقل وإدراك وبين عنف متفشي يخرج فيه محمد رمضان بمسدس الى جانبه واستعراض بالعري والكلمات الركيكة العدوانية الفارغة من كل المضامين المليئة بالغباء والتحريض والتنمر والاستقواء بالعضلات والسلاح والسيارات التي تصير نتيجة طبيعية مع كل هبوط وانحدار وانحلال للمذاق العام.
عندما يصبح حلم الفقراء بالغنى على مرمى مشاهدات بالملايين تجلب الملايين، تكون المسخرة في كل انحلال لها من اخلاق وفي كل انحطاط وتردي أكثر مشاهدة، يصبح الطلب الطبيعي اقحام للذائقة العامة فيصير جزء بديهيا من سلوك المجتمع.
عنف وتحرش واغتصاب وتفنن بالقتل تحت كلمات أغاني وموسيقى تدق بالطبلة السمعية لتخرقها.
نلتهم سكر محلي محطوط عليه كريما ونتغاضى عن نصائح تربينا عليها بالابتعاد عما هو مكشوف وما يحيط به الذباب من حلويات.
فيصيبنا وابل الاوباء التي يبدو انها صارت تنخر في عقولنا وعيوننا واذاننا، فاصمتنا واعمتنا ومحت حواسنا وصرنا نمشي مواتا – مثل الزومبي- في هذه الحياة.
ملاحظة : اغنية سكر محلي لا تقترب بسوئها من قباحة الكلمات والايحاءات التي يتم تداولها في هذه الصرعات من الأغاني. عنف ومخدرات واغتصاب وسفاح وتعابير جنسية فاضحة.
كاتبة فلسطينية