نادية لطفي رحمها الله كانت هناك في بيروت المحاصرة

أحد, 02/09/2020 - 09:08

السفير منجد صالح

إبّان حصار شارون لبيروت، أوّل عاصمة عربية، بعد القدس، تجتاحها وتدخلها عنوة جحافل جيش الإعتداء الإسرائيلي، عام 1982، قال أبو عمّار، رحمه الله، بأنّ: “وزير الخارجية العربي الوحيد” الذي زارنا في بيروت المحاصرة هو كلودوميرو مالميركا، وزير خارجية كوبا!!!

وقد إنتظر أبو عمار والقيادة الفلسطينية والمقاتلون الفلسطينيون المحاصرون المدافعون عن بيروت لمدة ثلاثة أشهر تقريبا، المدد والدعم العربي، من القريب ومن البعيد، ولكن “لقد أسمعت إذ ناديت حيّا ولكن لا حياة لمن تنادي”.

“ويا وحدنا”، نُقلّع شوكنا بأصابعنا وأيدينا، ولتبقى أصابع الأشقاء العرب ملفوفة بورق السوليفان.

لقد وعد “معمّر القذافي” في بداية الإجتياح تزويد المقاومين الفلسطينيين بقوارب مُتفجّرة صغيرة وسريعة تصلح لمكافحة “لنشات دبور” الهجومية الإسرائيلية التي كانت “مرشومة” على طول وعرض الشاطىء اللبناني المحاصر، تقذف الحمم والموت والدمار. حصار من البر والبحر والسماء. حصار لا ينزّ منه الماء.

لقد “تعشّمت” القيادة الفلسطينية التي تُدير حرب الإجتياح “خيرا” بأن يُرسل لها القذّافي هذه الزوارق “السحرية”، التي كان قد وعد بها، من أجل التخفيف من ضغط “العدو” المُعتدي على بيروت وشواطئها.

لكن جواب حضرة “العقيد” النهائي، حينذاك، حين طُلبت منه القيادة الفلسطينية المحاصرة، الوفاء بوعده، كان: “إصمدوا وإنتحروا في بيروت؟؟؟!!!”.

وصمدت القيادة وصمد المقاومون وصمد الفلسطينيّون واللبنانيّون ولم يلبّوا “نداء” العقيد لهم ولم ينتحروا!!!

مقابل مثل هكذا مواقف كالحة، “مائعة”، تثبيطيّة، لا إنسانية، لا قوميّة ولا عُروبية، جاء جواب.

ملاك بصورة حورية نبتت وأينعت وازهرت على شواطىء الإسكندرية وبور سعيد. سيدة جميلة، فنّانة مبدعة، نسمة حملتها النسائم القادمة من أرض الكنانة، من أرض سعد زغلول وجمال عبد الناصر، من أرض وادي النيل وضفاف ودلتا نهر النيل الخصيبة الى بيروت المحاصرة، “الملفوفة” بالقذائف والحمم والنار وغزو الأشرار.

هذا الملاك، هذه الحورية، هذة النسمة الشذيّة، هذا البسلم الشافي، هي نادية لطفي.

أبت على نفسها الحياة الرغيدة التي تتسربل بها، أبت على نفسها فراش الحرير التي تتدثّر به، أبت على نفسها النسيم العليل تتنشّقه، وإنضمّت الى ركب الأبطال المقاتلين المدافعين عن بيروت، عن شرف بيروت، عن شرف الأمة العربية، عن شرف الأمة الإسلامية وعن جوار مهد سيدنا المسيح وأتباعه، موطن وثرى أوائل البحّارة الفنيقيين.

جاءت لتنتصر وتناصر المدافعين عن بيروت، لتعيش حياة الثوّار تحت وابل النار، لتنام في “إستحكامات” الثغور، على فراش من حصير، ولتستنشق رائحة البارود وغبار العمارات المهدّمة بفعل القنابل الفراغية المقذوفة من طائرات إف 16 الممهورة بنجمة داوود المُعتدية.

جاءت الى بيروت المحاصرة تتمنّق بوشاح الكوفية الفلسطينية المُرقّطة بالأبيض والاسود، تلفّها على عنقها الوردي، ترتمي على كتفيها الجبليين، تسابق الزمان والمكان، وتحفر لها في الزمان مكانا ساميا، يرقى الى الخلود، ويجاور خلود دلال المغربي وسناء المحيدلي وآية الاخرس والأم تيريزا.

كانت جسورة كاللبؤة، تتحرّك كالفهد “قفزا” بين المواقع، في الفاكهاني ومحيط الجامعة وجسر الكولا والملعب البلدي وصبرا وشاتيلا والأسواق التجارية وشارع الحمراء والكورنيش، ومع “شعراء وكتاب الرصيف”. تحمل كاميرتها على كتفها وفي يديها تسجّل يوميات الحرب، مشاهدات العدوان، وتلفح بحضورها الجميل الأخّاذ وجوه وهامات المقاتلين بعبق من الزنبق والريحان والقرنفل البلدي العطري.

عايشت المقاتلين وأكلت وشربت وجاعت معهم في مواقعهم على محاور القتال في بيروت، في الأسواق التجارية حيث كانت الدبابات الغازية تتقدّم في اليوم متر ونصف أو مترين من شدة وشراسة مقاومة أبطال الآر بي جي المدافعين.

كانت بيروت تحت الحصار لوحة سريالية متكاملة. غارات الطائرات المعتدية وقذائف البوارج من البحر وصواريخ وقذائف مدافع البر لجيش الإعتداء الإسرائيلي الزاحف كالجراد “يأكل” في طريقه البشر والشجر والحجر. يقابله مقاتلون أفذاذ بسلاحهم الذي لا يمكن مقارنته مع سطوة وضخامة سلاح المعتدي، ولكن بعزيمة راسخة كالجبال وتصميم وإستعداد للتضحية تضاهي تصميم  الأبطال المدافعين عن ستاليغراد ولينينغراد وموسكو بقيادة الجنرال جوكوف في الحرب العالمية الثانية، واستعداد وكفاءة ابطال الجيش الشعبي الفيتنامي وثوار الفيتكونغ الذين كنسوا قوات الاحتلال الأمريكية  من سايغون في حرب التحرير الفيتنامية بقيادة الجنرال جياب عام 1975.

سجلّت نادية لطفي بكاميرتها يوميات الحصار، عملت آلاف الصور وعشرات الفيديوهات. صوّرت المقاتلين في مواقعهم وفي لحظات إشتباكهم مع المعتدي، رشاشات الكلاشنكوف في أيديهم وقذائف الآر بي جي على أكتافهم. أفران تعمل بكامل طاقتها أربعا وعشرين ساعة تحت القصف والدمار، ونساء يطبخن على الحطب في الأزقة لإطعام المقاتلين والمدنيين. عمارات مهدّمة وحجارة متطايرة وجثث متناثرة بفعل الغارات والحمم من الجو والبحر والبر على كل ما يتحرّك في بيروت وعلى كل ما هو سابت في بيروت.

محمود درويش كان هناك أيضا في الحصار، في بيروت التي يداهمها الموت والدمار كل لحظة. في بيروت التي تنتج البطولة والفداء كل لحظة. وهو بذاته أبدع من خلال عتمة إنقطاع التيّار الكهربائي وإنقطاع المياه وحرمانه من القهوة التي يعشقها في كثير من الاحيان. أنتج رائعته: “ذاكرة للنسيان، الزمان بيروت، المكان يوم من ايام آب، 1982”.

سألوا درويش: “ماذا يصنع الشاعر في زمن الحرب؟”

أجاب: “لا شيء. هم يصنعون”. وأشار بيده الى المقاتلين المدافعين عن بيروت.

رحم الله محمود درويش الشاعر الفلسطيني المبدع، شاعر المقاومة، ناظم “سجّل أنا عربي”.

ورحم الله نادية لطفي، الفنانة المبدعة والإنسانة الأبدع.

وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

كاتب فلسطيني

الفيديو

تابعونا على الفيس