البحث عن “حمدوك” لبناني وآخر عراقي

سبت, 02/08/2020 - 08:34

د. عبدالحميد بن قدوع
“كرزاي” ثم “حمدوك”
حامد كرزاي كان أنموذجا لما تمخضت عنه عقلية الطاغوت (الامپريالزم) في بداية الألفية الثانية عقب انهيار الشيوعية. فقد كان يمثل مظهرا من مظاهر الاستثمار في عروض اللجوء السياسي وعروض الهجرة التي تمنحها دول الطاغوت (الامپريالزم) لمواطني دول العالم الثالث على نحو خاص. في العراق كان هناك أفراد مثل إياد علاوي وأحمد الجلبي وحيدر العبادي، وحتى الرئيس الحالي برهم صالح، يمثلون نماذج على تطبيق هذه النظرية الاستراتيجية. بعد التطور الذي شهدته وسائل التواصل الاجتماعي تطور نموذج “كرزاي” إلى نموذج “حمدوك”.
عبدالله حمدوك كان أول التطبيقات للنموذج الجديد للهيمنة غير المباشرة على شعوب ما يعرف عند الطاغوت (الامپريالزم) بالشرق الأوسط بالمفهوم الموسع. يختلف حمدوك عن النماذج السابقة في عدة أمور، منها أنه يصنف باعتباره منتميا إلى طبقة التكنوقراط التي هي المسير الحقيقي والفعلي للأمور في معظم دول العالم الثالث، وبخاصة العناصر المنتمية للمحافل الماسونية على وجه الخصوص. وحمدوك خلفيته السياسية شيوعية حيث كان ينتمي للحزب الشيوعي السوداني زمان انتشار الشيوعية، ولو ظلت الشيوعية كما كانت لكان مكانه في الهامش، ولكن بما أنه لم يعد هناك خطر من الشيوعية على الطاغوت (الامپريالزم) فلا بأس من الاستفادة من عناصرها الانتهازية ذات الخلفية المهنية المحتاج إليها في تنويم الجمهور وخداعه.
وصل التطور في وسائل التواصل الاجتماعي سريعا إلى درجة النجاح في توجيه الرأي العام من خلال تكثيف الذباب الالكتروني. وأبرز الأمثلة على هذا النجاح هو توجيه البريطانيين في اتجاه التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي من أجل مصلحة ضيقة للطبقة الغنية المسيطرة على الاقتصاد. وهناك مثال بارز آخر هو وصول دونالد ترمب للبيت الأبيض، فقد كانت استطلاعات الرأي إلى آخر الأسابيع التي سبقت الانتخابات تشير إلى تقدم هيلاري كلنتون على ترمب، وفجأة انقلبت الأمور عندما تحرك الذباب الألكتروني وركز على غفلة هيلاري عن حسابها الالكتروني الحكومي وفتحه للاستخدام العام، وتصوير ذلك باعتباره خيانة للأمن القومي.
لبنان كبير وعراق صغير
لبنان عراق مصغر والعراق لبنان مكبر من حيث التركيبة الاجتماعية للسكان. فما ينطبق على لبنان ينطبق على العراق والعكس صحيح. يتحرك الذباب الألكتروني تحركات جنونية وكأنه في سباق مع الزمن في بيروت وبغداد من أجل تحريف بوصلة الرأي العام باتجاه قبول عملاء للمؤسسات الربوية الكبرى، التي هي أذرعة الطاغوت (الامپريالزم) في مجال الاقتصاد، وتقديمهم باعتبارهم منقذين للبلاد من الأزمات الاقتصادية من حيث إنهم كفاءات علمية ومهنية قادرة على تلبية حاجات الناس الملحة، حتى وإن حصل وصولهم إلى السلطة من سبيل غير ديمقراطي على طريقة “حمدوك”. وما إن يحصل ذلك حتى يشرع الذباب الاكتروني في تغيير السياق إلى سياق يؤدي إلى تمديد فترتهم الانتقالية أطول فترة ممكنة من خلال استحداث أزمات تتلوها أزمات لا تنتهي ولا معالج لتلك الأزمات إلا “حمدوك” لبناني في بيروت و “حمدوك” عراقي في بغداد.
فرص النجاح والفشل
لا يراودني أدنى شك في أن نظرية “حمدوك” تطبيقها سيفشل في لبنان وفي العراق على حد سواء. ذلك لأن أهل لبنان يختزلون حضارات الفينيقيين وحضارات الشام الكبير العريقة، وكذلك الحال عند أهل العراق. إن الوعي بالمشكلة هو أول وسيلة لمواجهتها وهو الأساس الذي تبنى عليه الوسائل والأدوات الأخرى اللازمة للتعامل مع المشكلة واحتوائها، وإن الوعي متوفر في لبنان وفي العراق.
النخب السياسية غير المتصلة بالطاغوت (الامپريالزم) في الشام والعراق هي الطرف الأكبر والأقوى قوة ذاتية وسوف تعمل على توعية أنصارها وأتباعها بالمخططات المعادية، أما العناصر المتصلة بالطاغوت (الامپريالزم) فهي قليلة العدد. وكثيرون منهم، إن لم يكن كلهم، لا يحفلون بالطاغوت على مستوى الوجدان، فتجدهم في جلساتهم الخاصة يلعنونه، ولكن لاعتبارات تجارية بالدرجة الأولى تليها اعتبارات اجتماعية، وربما اعتبارات سيكولوجية، تجدهم مرتبطين بالطاغوت ويعتمدون عليه. ولذلك فإن أمريكا تتجسس على حلفائها أكثر مما تتجسس على خصومها، فالثقة بين الطرفين معدومة.
إن انتخاب رئيس السلطة التنفيذية مباشرة من الشعب، وليس بالتوافق، هو الخطاب الصحيح الرامي إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي. أما ما يروج له من أساليب واقتراحات أخرى فيدخل في مقولة الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، “كلمة حق أريد بها باطل”. لماذا لا يجب أن يكون المرشح مواطنا لم يسبق له التجنس بجنسية الطاغوت (الامپريالزم)؟
وظيفة “حمدوك”
يقول المثل “إذا وقعت في حفرة فأول شئ يجب أن تفعله هو أن تتوقف عن الحفر”، أما “حمدوك” فأول شئ يجب أن يفعله هو أن يشرع في الحفر وأن يستمر فيه. عندما وصل عبدالله حمدوك إلى السلطة في الخرطوم كانت قيمة الدولار الأمريكي حوالي خمسين دينارا ولم يمر عام حتى تجاوزت قيمته المائة. أما في لبنان والعراق فالأرقام أرقام فلكية.
وسوف يفشل حتما مشروع “حمدوك” في السودان أيضا. وهذا الزعم مبني على معطيات تاريخية، فمنذ أن وافق زعيم “الوحدة العربية” طوعا على انفصال (!) السودان ودار فور عن مصر عام 1956 (ورث الزعيم عن الملك فاروق مساحة بحجم الهند تشمل مصر والسودان ودار فور إضافة إلى سيناء وغزة) أصبحت أجيال متعاقبة من المخابرات البريطانية هي التي تدير الأمور السياسية في السودان بالتنسيق مع أجيال متعاقبة من طبقة التكنوقراط التي أسستها من عناصر النخبة السياسية التي تلقت تعليمها في بريطانيا. فكانت هناك على طول تاريخ السودان الحديث مراوحة بين انقلابات عسكرية وانتخابات ديمقراطية. الانقلابات يقوم بها ضباط من الجيش مدعومين إما من الشيوعيين أو الإسلاميين، في مشهد مشابه للمشهد الذي يحدث في باكستان، المشهد الذي تديره بريطانيا كذلك.
فالتركيبة السياسية في السودان تتألف من أربعة أضلاع، ضلعان كبيران لا يحتاجان إلى التآمر مع الجيش من أجل الوصول إلى السلطة هما حزب الأمة والحزب الاتحادي، ويستند كل منهما إلى قاعدة صوفية شعبية كبيرة واحدة في غرب البلاد وأخرى في شرقها على التوالي. والضلعان الصغيران هما الحزب الشيوعي والحركة الإسلامية اللذان يستندان على الطبقة المثقفة العلمانية والمتدينة على التوالي. وقد جرت العادة أنه عند الانتخابات يتصدر النتائج حزب الأمة والاتحادي فيتقاسمان معظم مقاعد البرلمان والوزارات السيادية، ثم ما يلبث أن يقوم الجيش بانقلاب بإيعاز إما من الشيوعيين أو الإسلاميين.
وما حدث منذ عام تقريبا هو في الحقيقة انقلاب عسكري أبيض رتبته المخابرات البريطانية من خلال أذرعتها الشيوعية في الخرطوم بعد قص أجنحة البشير في الحركة الإسلامية، وقدم للناس باعتباره ثورة شعبية ضد الفساد والاستبداد. في زمن ازدهار الشيوعية ظل الطاغوت (الامپريالزم) يوظف الاسلاميين في مواجهة الشيوعيين، وأحد الأمثلة على ذلك في مصر إيعازهم للسادات بتقريب الإسلاميين فوصل الشيخ شعراوي إلى منصب وزير الأوقاف، الشيخ الذي صلى ركعتين شكرا لله على هزيمة الزعامة اليسارية في حرب حزيران. أما بعد انهيار الشيوعية صار الطاغوت (الامپريالزم) يوظف الشيوعيين في مواجهة الإسلاميين في كل مكان من العالم الإسلامي خاصة في الدول العربوفونية.
كاتب عربي مقيم في كندا

الفيديو

تابعونا على الفيس