د. وائل عواد
تحتفل الهند بالذكرى ال71 لعيد الجمهورية الذي يصادف في السادس والعشرين من يناير كانون الثاني عندما تم اصدار الدستور الهندي في 26-1-1950. تتميز الاحتفالات التي تستمر لثلاثة ايام ، بتوزيع الجوائز على شخصيات وطنية وشعبية و العروض العسكرية التي تعكس ترسانة الهند من الاسلحة المتطورة والحديثة والانجازات العسكرية والفضائية تتخللها عروض فلوكلورية ، تعبر عن عمق الحضارة الهندية .تتزامن احتفالات هذا العام مع موجة من الاحتجاجات التي تعم معظم المدن الهندية ضد السجل الوطني للمواطنين و قانون الجنسية المثير للجدل ،الذي استثنى المسلمين من دول الجوار بنغلادش وباكستان وافغانستان من الجنسية الهندية الأمر الذي اعتبره العديد من الشخصيات والاحزاب السياسية يعارض علمانية الدولة و الدستور الذي يساوي بين جميع أفراد المجتمع الهندي بغض النظر عن انتمائهم الديني أو العرقي أو الاثني . الملفت للنظر ان هذه الاحتجاجات فاجأت العديد من رجال السياسة ،حيث ضمت طلاب الجامعات والاكاديمين والمحاربين القدامى والمتقاعدين والنساء والأطفال بغض النظر عن انتمائهم الديني، حملوا شعارات متعددة وصور لمؤسس الدستور ب.ر. أمبدكار ،الامر الذي أعطى الانطباع العام ان الجمهورية الديمقراطية الهندية مازالت فتية تواقة لممارسة الديمقراطية ،تنبض بالحياة ولها جمهورها وخصوصياتها وجاذبيتها.وأن كان من المبكر الحديث عن النهاية المرجوة لهذه الاحتجاجات ومسيرات التأييد وسط تمسك كل طرف بمواقفه والتحديات التي سوف تواجهها الهند .
الديمقراطية الليبرالية
بعد ثورة اللا عنف التي قادها الزعيم الروحاني المهاتما غاندي ،نالت الهند الفيدرالية استقلالها في 15-8-1947 عن الاستعمار البريطاني الذي قسّمها إلى دولتين الهند وباكستان وخرجت من براثن الاستعمار ضعيفة منهكة منقسمة طبقيا” ودينيا” .تعاني من الفقر والجهل والجوع وتنزف الدماء بسبب العنف الطائفي الذي ضرب العديد من المناطق .وبعد عامين ونيف تقريبا” وضع قادة الهنود الوطنيون العظام الدستور بطريقة براغماتية ومثالية وكانوا على قناعة تامة بان قوة الهند في تعدديتها العرقية والدينية والاثنية والاجتماعية والثقافية وان الدستور هو الذي يجمع شرائح المجتمع كافة .
حارب الشعب الهندي قادتهم الذين حاولوا التلاعب بحقوقهم ومخالفة الدستور باعتبار أن الديمقراطية الليبرالية هي الطريق الوحيد لجمع الشعب الهندي تحت سقف واحد لابقائها قوية غير قابلة للتقسيم .كانت الضحية الأولى الزعيمة الراحلة أنديرا غاندي عندما خسرت الانتخابات البرلمانية العامة، عقب قيامها بإعلان حالة الطوارئ عام 1975 وزّج القادة السياسين في السجون وتقييد الحريات الشخصية .
الانجازات والتحديات
حافظت الهند على علمانيتها وحصّنت جبهتها الداخلية من خلا دعم ركائز الديمقراطية على مدى العقود السبع الماضية وتعزيز من دور الاعلام الحر والحفاظ على استقلالية الجيش والقضاء .حلم راود صناع القرار لمنع الانفصال ورفع مستوى الحياة المعيشية والاجتماعية للشعب الهندي ومحاربة الفقر والأمية والامراض المتفشية .
انخفضت درجة ممارسة الديمقراطية في الهند خلال العامين الماضيين وتراجعت الهند إلى المرتبة ال51 في مؤشر الديمقراطية التابع لوحدة الايكونوميست ، لعام 2019،الذي يستند في تقييمه إلى خمس فئات: العملية الانتخابية والتعددية ، وسير عمل الحكومة ، والمشاركة السياسية ، والثقافة السياسية ، والحريات المدنية.الأمر الذي سوف يبعد المستثمرين الأجانب وتدفق رؤوس الاموال الاجنبية للهند.لكن هذا التقييم لاقى انتقادات واسعة داخل انصار الحكومة الهندية .
ما تشهده الهند ثورة حقيقة للحفاظ على الإرث ودعم المبادئ الديمقراطية للدستور، الذي ورثه الجيل الشاب واهمية إعادة التأكيد على ممارسة الحياة الديمقراطية .يحق للشعب الهندي ان يفتخر بما حققته البلاد منذ الاستقلال والانجازات العديدة وهم مدينون للأمة ويقع على عاقتهم مسؤولية كبيرة وضرورة إعادة إحياء الحياة الديمقراطية وتنظيم المجتمع وشّد انسجته واطيافه لمواجهة التحديات الامنية والاجتماعية والاقتصادية وتعزيز الوطنية والقومية والابتعاد عن الشوفينية.
مما لاشك أن الهند تجتاز مرحلة عصيبة في تاريخها السياسي المعاصر وان الأزمة قد تتفاقم وتاخذ منحا” خطيرا” إذا اشتدت حدة المواجهة و بدأت تاخذ ابعادا” طائفية . امتحان صعب للديمقراطية الدستورية ،قد تنجح القوى والحراك الشعبي من كبح هذا الانحدار ، في حال أدركت القوى السياسية تداعيات هذه المواجهات على مستقبل الهند العلمانية وأعادت اللحمة الوطنية.
يراقب العالم ما حققته الهند منذ الاستقلال ونهوضها كقوة ناعمة قادرة أن تلعب دورا” حيويا” على الساحتين الاقليمية والعالمية . وعلى صناع القرار الاخذ بعين الاعتبار المكانة التي تتربع عليها الهند حاليا” وأن يتم تجاوز الأحداث الاخيرة التي عصفت في الهند وضرب الأيدي الخفية التي تسعى جاهدة لجر الهند إلى حافة الهاوية قبل فوات الأوان .
يتوجب على الهنود أن يتذكروا أن بلادهم نالت استقلالها بعد نضال دام شارك فيه جميع افراد الشعب ولا يمكن العودة إلى الوراء وان يكون الدستور فوق كل شيئ ولا يعلو عليه شيئ بعيدا” عن المصالح الضيقة الأفق.
كاتب وصحفي سوري مقيم بالهند