التخلص من النظام الجزائري يمر عبر النجاح في تشخيصه

أربعاء, 01/15/2020 - 18:00

بشرى حديب

يصر بعض المطبلين ومرتزقة النظام السياسي في الجزائر على القول بأن الحراك لم يرم التغيير الجذري الذي يقوض معالم دولة الاستقلال (الاستقلاب) التي بنتها عصابة وجدة صائفة 1962، بل رام وضع حد لتسيب سلطة بوتفليقة وعائلته والمستفيدن من المفسدين الذين أحاطوا بها.

وليس يبطل فيما طرحه هؤلاء في سوى اختزال مطلب الحراك في تغيير سلطة بدل النظام، ذلك أن شعار “يتنحاو قاع” واضح أنه الترجمة العامية لعموم التغيير وشموله فلسفة وعضوية، أما القول بأن سلطة بوتفليقة الفاسدة المفسدة كانت سببا لخروج جحافل الشعب في كل شوارع الجمهورية احتجاجا على المسلك الانتخابي الذي كان معدا سلفا تحت شعار الاستمرارية، فهذا تأكيد على أن سلطة بوتفليقة كانت قاطرة لنظام سياسي سائرة سلسلة قاطراته منذ الاستقلال، يتناوب عليها أبطال مراحلها ليس إلا.

لكنه بات حتميا أن تُرسم خلاصة لملحمة الشعب الجزائري في مقاومته الطويلة والمستمرة لعتو وصلف النظام ورغبته الدائمة في الديمومة على رقابهم والجثوم على صدورهم من دون إرادتهم، وتحديد مكامن وعناصر القوة التي يمتلكها ويوظفها، في مواجهته للوعي التغييري الذي يحمله الشعب، وكذا تعيين الفجوات الكامنة في الوعي الشعبي هذا التي من خلالها يتسرب سم وسحر هذا النظام لشل إرادة الشعب في التغيير والانتقال الديمقراطي.

فبمجرد أن نقر بأن هذا النظام القائم في الجزائر “قديم”، ندرك حالا أننا بإزاء حالة مناطحة لمنطق التاريخ وللعقل والعلم، وهو ما يفسر بقاء الجزائر رغم قدراتها السكانية، الثرواتية الطبيعية، العلمية وموقعها الجيوبوليتيكي المهم، متخلفة ليس بمعيار فقط تلكم القدرات بل وفق معايير التطور المعتمدة دوليا وحضاريا ووفق معيار المقارنة مع دول لا تملك ثلث من تملكه بلاد الشهداء التي صار يرمز لها ببلاد الفاسدين والمفسدين ببركة انتاج هذا النظام.

من هنا كانت غلطة الطبقة السياسية الفتية التي خرجت من أقبية السرية نهاية ثمانينات القرن الماضي متسلحة بالمعرفة السياسية وليس بالمعرفة التاريخية  والجينية لهذا النظام المولود بطريقة غير شرعية، فصارت تتعامل معه وفق محصولها المعرفي في الطب والاقتصاد والإعلام والسياسة وكأن نشأته هي من خالص تطور تفاعل تلك الحصائل المعرفية في الوعي الشعبي والشباني المعارض في الجزائر.

فإذا به يغرق البلد في حمام دم عبر أجهزته (العنفية/الأمنية) التي لا تقم وزنا للمسئولية السياسية فضلا عن المسئولية الإنسانية، فقام بشيطنة المعارضة وبث الفرقة فيما بينهما وخلق معارضة للمعارضة عبر اختلاق أحزاب من داخل عائلاتها الكبيرة واختراق جلها أمنيا مع تأجيج النزاعات الإيديولوجية وتوظيف نخب سارقة مارقة في هذا الاتجاه فانتهى به الأمر إلى تخريب الساحة السياسية وتدمير نسقها بحيث لم تعد الى النسق الأحادي الواضح الذي كانت ماضية عليه، ولم تترك داخل نسق التطور التعددي الطبيعي ووضعت في منزلة بين المنزلتين ما جعل الزمن السياسي  يتوقف بالجزائريين ويخرجهم من قطار التاريخ.

وإذا كان بوتفليقة قد دق إسفينا في نعش المعارضة الجادة حين أغرقها بالفساد الذي كان مشروعه الأول لتحطيم الجزائر الجثوم بعرشه على قمة ذلك الحطام الذي سيظل راسخا وفي وعي الجزائريين جيلا بعد جيل يدين هذا العنصر من عصابة وجدة من برر عملها واستفاد منها سنين، فبوتفليقة صار مع توالي عُهداته يتخلص من تلكم الأحزاب بعدما جعل الشعب يتعلق بشعاراته الكاذبة ويكفر بتجربة الحزبية والسياسية التي لم تنتج سوى الدمار أو كما أراد النظام تصويرها له، فركز على عناصر القوة والديمومة للنظام وبقائه وهي دون شك، المؤسسات التي تتحكم في قوت الجزائري مباشرة، فأنشأ أوليغارشية موالية له في المقام الأول بعدما دمر تلك التي كانت توالي جهاز المخابرات (ملف خليفة خير دليل) استمال بشكل قاطع رؤوس النقابات بعدما نالهم بالكثير من إغراء فساده، زرع الفتنة داخل المؤسسات الدستورية أبرزها الجيش ليوصل إلى قيادته رجل ليس بكفاءة ضباط حاصلين على مستويات تعليمية وتكوين أكاديمي كبير جدا وأقل سنا منه، قوات الأمن التي فرقها وجعلها طائعة لإرادته، البرلمان الذي احكم بالتزوير السيطرة عليه، سيطر على الإعلام السمعي البصري، دعم الزوايا الطرقية المعروفة بفساد طرحها الديني وولائها للأولي نعمها من أصحاب المال.

وما الذي فعله النظام بعد إزاحة بوتفليقة أو التخلص منه للخلاص من الهبة الشعبية؟ لاشيء أكثر من أنه ورث عنه تلك المواقع، والكل رأي كيف أن الراحل علي فضيل المدير العام لمجمع الشروق الذي طبل للخامسة وللاستمرارية تحت ضغط الديون والحاجة للمال، لينقلب في رمشة عين ضد هاته الخامسة ويصبح قلعة للمدح لقائد الأركان والقدح في بوتفليقة، ما تسبب في حالة ضغط رهيبة فانتهى به الامر إلى سكة قلبية هنا بفرنسا أودت بحياته.

كما وأحكم النظام سيطرته على النقابات والمنظمات وحال دون أن يجرفها الحراك ويضمها إلى مشروعه لأنه وقتها فقط كان سيصل (الحراك) إلى المقدرة على تحقيق العصيان الثوري الذي كان سيطيح به لا محالة في أقل مدة زمنية ممكنة.

في مقابل ذلك اعتمد سياسة عدم التصعيد العنفي في الشارع (تحت حيلة اتعهد بعدم إراقة قطرة دم واحدة) طالما أنه يعمل في الخفاء وفق الآليات التي ذكرنها، لتنضيب الحراك من عناصر قوته، فوظف العدالة بإحكام حيث استعملها للتلهية ولفت الانتباه عما كان يخطط له في الخفاء لتمرير مشروعه القاضي بتعيين (انتخابي) رئيسا تكون له القدرة على طرح إصلاحات سطحية وليس عميقة تطفئ جذوة وعطش الشباب المطالب بالانتقال السياسي، الدمقراطي والجمهوري.

ومن أساليب التعمية والتلهية تلك، عزل العاصمة، منع العلم الامازيغي، اعتقال بعض الوجوه في الحراك، فاشتغل صوت الحراك كثيرا بتلك القضايا وصارت الزغاريد تطلق في قاعات العدالة، وفيديوهات تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيها صور عن فرحة الإحياء وأهلي من أطلق سراحهم من النشطاء الحراكيين كمكسب للثورة !!

لقد صار حتميا على العقل لسياسي الوطني أن يغير زاوية الرؤية التي يرى من خلالها سبل التغيير الذي يليق بنظام مافيوي يعتبر الجزائر غنيمة له ولأجياله وأبناء أجياله، بحيث تقلع هاته الرؤية عن النقدية المعرفية التي لا صلة لها بطبيعة النظام الجزائر الشاذ عن كل نماذج النظم وقومتها وقيوميتها على شعوبها، فالهدم الثوري الذي سبق وتحدث عنه الجميع يجب أن يكون عمليا ومتصلا بالحالة الميدانية الجزائرية، وهذا عبر السيطرة على مواقع قوة النظام وتجريده منها بالسليمة التامة لكن بالعملية المتمة وليس بالسير فقط في الشارع وحمل الشعارات، لأنه ثبت أن النظام لا يهمه تفاقم الأزمة الاقتصادية ولو طال الحراك قرنا من الزمن، قد اهتمامه بالديمومة في حكم أجيال من الشعب قاطعة معه في كل شيء تاريخا ومشروعية ومشروعا.

صحفية جزائرية مقيمة بفرنسا

الفيديو

تابعونا على الفيس