د. عبير عبد الرحمن ثابت
ما الذى يعنيه وجود منظومة القضاء العشائري فى أى دولة اليوم؟ .. سؤال يجب علينا الاجابة عليه بكل شفافية وصدق، وما الهدف من بقاء هذه المنظومة حية وفاعلة فى ظل وجود دولة يفترض فيها أنها تمثل منظومة سياسية وتشريعية وقضائية تحكم وتدير من خلالها الدولة شؤون الشعب عبر دستور ينظم العلاقة بين السلطات الثلاث ومؤسسة تشريعية تقر التشريعات والقوانين ومؤسسة قضائية تحكم من خلال القانون لإقرار العدالة وضمن منظومة الدولة تلك التى يفترض أن تضمن الدولة لجميع مواطنيها تحقيق العدالة بمفهومها الواسع السياسي والاقتصادى والاجتماعي والقضائي، كذلك إن وجود القضاء العشائرى عبر التاريخ كان ضرورة حيوية لغياب الدولة أو لغياب تأثير سلطة الدولة فى تلك المناطق التى اعتمدت القضاء العشائرى كمنظومة عدالة؛ وهي مناطق كانت فى العادة بعيدة عن مركز الدولة أو مناطق ظل لا تأبه بها الدولة ولا تصلها أى خدمات منها؛ وفى العادة كانت تلك المناطق المهملة الأكثر فقرا اقتصاديا وضعفا سياسيا. ومفهوم القضاء العشائري بالأساس يقوم على قاعدة تحميل ذوى المتهم تبعات ما قام به حتى لو لم يكن أولئك شركاء فى الفعل؛ وهذا فى حد ذاته يتنافى مع المنطق والعقل وبالتأكيد مع بديهيات العدل؛ فما معنى أن تتحمل عائلة بأكملها ذنب قام به أحد أفرادها؛ والأسوء من ذلك أن تصل المسؤولية عن هذا الذنب لكل من له علاقة قرابة دم بصاحب هذا الذنب ليس من الدرجة الأولى أو حتى الثانية بل قد تمتد إلى الدرجة الثالثة والرابعة والخامسة بحيث يتحمل أبناء الجد الخامس لصاحب الذنب المسؤولية عما اقترف بكل تبعاته من عقوبات ضمن القضاء العشائرى؛ والتى يكون أولها ما يعرف بالجلوة وهى رحيل كل من له قرابة من صاحب الذنب من أماكن سكناهم المجاورة للمجنى عليه؛ وكلما كانت عائلة المجنى عليه وعشيرته كبيرة ومنتشرة كلما كان هذا الترحيل أشمل وبالتأكيد أبعد وهو ما يترتب عليه تشريد عشيرة بأكملها وهو فى الحقيقة جريمة ترانسفير واضحة المعالم لكنها تتم بالتراضى على مرئ ومسمع المجتمع والدولة.
وعليه نجد أن مفهوم القضاء العشائري يستند فى أحكامه إلى العرف الذى هو فى أحيان كثيرة يعتمد على ما تعارفت عليه هذه المنظومة القضائية من حوادث تاريخية قديمة يستند إليها القاضي العشائري فى الأساس لتقدير العقوبات المترتبة على ذوي الجاني؛ ومن هنا فإنه يكون من البديهي أن يكون الحكم اجترار للماضي إن لم يكن استنساخ صادق وحقيقيا له بكل مفاهيمه الثقافية والاجتماعية القائمة فى حينه؛ وهذا فى الحقيقة تجاهل قاتل للتطور الثقافي والاجتماعي للمجتمع وعودة واضحة إلى الخلف فى مفهوم العدالة القضائية، فكيف يمكن لقاضى أن ينشئ حكمه على أسس تغيرت إن لم يكن انقرضت عمليا؛ إضافة إلى ذلك أن مفهوم القضاء العشائري فى الأساس لا ينظر للشخص باعتباره شخصية مستقلة مسؤولة عن أفعالها بل ينظر إلى الشخص باعتباره جزءا من كل عبر رابطة الدم؛ وهذا الكل فى نظر القضاء العشائرى يختلف فى تقله فى ميزان عدالته بين عشيرة وآخرى فثقل العشيرة الديمغرافي عامل مهم فى ميكانزمات الحكم فى تقدير العقوبات المالية على وإلى العشيرة. وهذا ما قد يشجع البعض أيضا ارتكاب الجرائم والاحتماء بالعائلة .
وصراحةً بقاء القضاء العشائري إلى يومنا هذا حيا وفاعلا هو أكبر دليل ليس على ضعف مؤسسات الدولة فحسب باعتبارها الحامي لحقوق مواطنيها وإقرار العدالة بينهم؛ بل هو دليل واضح على ضعف وتهميش فكرة المواطنة فى المجتمع لصالح ترسيخ مفهوم العشيرة والقبيلة باعتبارها الحامى الفعلي والواقعي للفرد؛ وهذا بالضرورة ينهي أى أمل فى قيام الدولة المدنية بمفاهيمها الاجتماعية؛ علاوة على باقى المفاهيم السياسية وغض الدولة الطرف على بقاء منظومة القضاء العشائرى لا بل تدعيمها فى أحيان كثيرة وصولا إلى إضفاء شرعية قانونية عليها هو اعتراف فشل الدولة في إقرار مفاهيم المواطنة والعدالة علاوة على أنه اعتراف بعدم قدرتها على إحداث التنمية الاجتماعية والثقافية لمواطنيها وهو ما يطرح علامة استفهام كبيرة على ما يترسخ فى وجدان وعقول الشعب عن مفهوم الدولة ومدى انعكاس هذا على مفهوم الوطنية ومفهوم دوائر الولاء والانتماء فى المجتمع.
أستاذ علوم سياسية