حَسمُ النّزاع في ميادين الصّراع … قيادة أستراتيجية أم قيادة أنفعالية

اثنين, 12/16/2019 - 21:19

د. أكرم جلال
إنّ مِنَ السُنن الإلهية أنْ تَكونَ أمم أهل الأرض بمختلف معتقداتهم وإثنياتهم وأديانهم ومذاهبهم وانتماءاتهم الفكرية والعقائدية عُرضة للأزمات ومسرحاً للتدخلات، وأنْ تكونَ تلك المفاهيم نهباً لأقلام الزور وأبواق الخداع منَ المُتضررين أو الطامعين، ليبدؤا بشَنّ الحملات وافتعال الأزمات، من أجل التّخريب والتّحريف والنّهب والأفساد والتّجهيل والتّضليل وخلط الأوراق وتشويه الحقائق، فيدخل الناس في دوامة التيه والضياع وهذا بداية الصراع.
ولأن الأزمات عادة ما تتخذ من عنصر المفاجأة أداة ووسيلة، لِتُخضع الجميع الى حالة من الإرباك والتخبّط وتعيش حالة من التيه فتبدأ بالبحث عن المُنقذ والمُخلص، فالحكمة تقول أنّ الأمم الناهضة والشعوب الواعية لا يمكن لها أنْ تُحصّن نفسها وتدفع بالاخطار عن حاضرها ومستقبلها إلا بوجود قيادة ستراتيجية كفوءة وأمّة ملبّية مطيعة وتخطيط ستراتيجي علمي يقرأ المشهد بدقّة فَيُنبئ بالأزمات والأخطار قبل حدوثها.
والقيادةُ ليست حالة طارئة أو عطيّة أو هديّة، ولا هي تَسلسل وظيفي أو منصب تشريفي يُعطى لقاء عمل أو إنجاز، ولا هي منصب يتوارثه الأبناء عن الآباء أو إرث أو عطاء بسخاء، القيادة حاجة ملحّة وضرورة طامحة، بها تقام الأمم وتقاد الشعوب نحو القمم، قيادة تملك الرؤى وترفع الأذى وتسير بأتباعها نحو الأهداف الكبرى.
لقد تعددت وتباينت نتائج الأبحاث والدراسـات حول موضوع القيادة، فمنها ما يُصوّر مفهوم القيادة على أنّه العلم والفن والمهارة التي يمكن أن تُكتسب وتُستحصل من خلال الدراسة والتمرين، وهناك من الدراسات ما ذهبت أبعد من ذلك فترى أنّ صفات القائد لا تُكتسب من خلال التدريس أو التدريب بل هي مهارات فطريّة وصفات جينيّة تولد مع الأنسان لتكون له علامة بارزة، تُمييزه عن غيره كقائد ميداني. وذهبت آراء ودراسات أخرى للتأكيد على أنّ القيادة إنّما هي مجموعة من الخصال والصفات الفطرية الموروثة وعلامات من النبوغ الأستثنائي تضاف اليها سلوكيات ومهارات تُكتسب من خلال التدريب والممارسة.
يقول غايري يوكل ( (Gary Yuklفي كتابه القيادة في المنظمات (Leadership in Organisations – 2012) أنّ القيادة هي الطريقة الأسرع لتحقيق الأهداف المشتركة من خلال تحفيز وإلهام الآخرين واتخاذ القرارات الشجاعة حول أين ومتى، وماذا وكيف، والتي قد تكون مستحيلة التحقق عند غياب القائد. ثمّ يُوَسّع بيتر نورتهاوس، ( Peter Northouse) في كتابه القيادة: النظرية والتطبيق (Leadership: Theory and Practice – 2013) تعريف القيادة من خلال تأكيده على أنّ القيادة هي إجراء يتضمن الإلهام في سياق المجموعة، للوصول الى الأهداف المطلوبة.
وكمفهوم، يشير أوكونبيمارو (Ogunbameru 2004)أن القائد هو الشخص الذي يقود، ويخطط، وينظم، ويراقب، ويتحكّم في الاتصالات، ويوزّع الأدوار ويُثبّت المسؤوليات لتحقيق الأهداف المجتمعية والسياسية.
لقد شكّلت الأزمة والقيادة والتخطيط الاستراتيجي أضلاعاً مترابطة يؤثر بعضها في البعض الآخر، فعملية مُجابهة أيّ أزمة تَعصف بأيّ أمة أو صراع ميداني يكون من خلال الأستعداد المُسبق لمواجهتها من خلال إختيار القيادة الكفوءة والتي تعمل وفق تخطيط استراتيجي علمي وتتّخذ قرارات شجاعة حكيمة وحاسمة، خصوصاً خلال المراحل الأولى من الأزمة. إذن، فعملية المواجهة والسيطرة على حالات الطوارئ والأزمات الكبرى بحاجة الى القائد الأستراتيجي، والذي لابدّ أن يتمتّع بمواهب وقدرات إستثنائيّة واستعدادات فطريّة وصفات مَعرفيّة، فالأزمات قد تنهال تباعاً وبشكل تدريجي ومن خلال أوجه متعددة، وقد لا تقتصر على منطقة واحدة داخل الحدود المشتركة، بل أنها قد تتوالد وتندفع بسرعة مخلّفة أزمات متوالية تهدر الثروات وتسير بالبلد نحو التشضي والإنهيار.
التأريخ بطبيعته مرآة للشعوب الواعية والأمم الناهضة، وهو مدرسة للخبرات والتجارب، وفي صفحاته سنن إلهية ودروس ربّانية وعبر أمديّة، وأنَّ أعظم تلك الصفحات أهميّة وأشدّها أولويّة هي تلك التي حَكَت لنا حياة قادة قدّموا الكثير لبناء أُممهم واستقرار شعوبهم، وكيف عَبروا بهم نحو برّ الأمان، وفي هذا المقال سنستحضر بعض الشواهد التي خلّدها التأريخ وأفتَخَرَتْ بها شعوبهم الى يومنا هذا. وبغضّ النظر عمّا إذا كنّا نتفق أم نختلف مع ما قاموا به، إلا أنّ الهدف من استذكارهم هو من أجل تصفّحِ مُنصف وحياديّ لرموز قيادية خلدها التأريخ وافتخرت بها الأمم والشعوب، ويبقى الغرض من ذكرهم بعيداً عن التحليل والنقد، فقد نَفرِدُ لذلك بحثاً مفصلاً في مقال آخر.
حينما نتصفّح تأريخ وحضارة مصر نَجد أنّ القيادة عند قدماء المصريين كانت تطفح بالعلم والفكر، وكانت الأدارة والتخطيط هي من السّمات البارزة لديهم، وحينما نستحضر بعض الشواهد القيادية من تأريخ مصر فلا بد لنا من الوقوف أمام قائد لامع كالملك أحمس الأول؛ وهو أول ملوك الأسرة الثامنة عشر، حيث أنهي أحمس خلال فترة حكمه على غزو الهكسوس، المهمة التي بدأها والده، والتي دامت أكثر من مئة عام (1648-1540 ق.م.) وبدأ أحمس بعدها بالتخطيط الأستراتيجي لاعادة إعمار البلاد، فبدأ بالمشاريع الكبيرة ليؤسس بذلك لدولة حديثة بلغت أعلى مدارج التقدم والحضارة.
وفي بابل القديمة، كان أسم حمورابي لامعاً في سماء القيادة والأدارة والتخطيط. إنّه أوّل ملوك الأمبراطورية البابليّة و سادس ملوك بابل (1792 – 1750 ق. م). كانَ يمتلك قُدرة وكفاءة عسكرية عالية، وكان يُعرف بالأدارة والتنظيم والتخطيط والجرأة في اتخاذ القرارات، وقد سَنّ العديد من القوانين ووعد بالعقوبات لمن يخالفها ليبدأ تطبيقها في بلاد الرافدين والعديد من دول العالم فيما بعد، ودوّنت في ما تسمى اليوم بمسلّة حمورابي حيث تحتوي على 282 فقرة قانونية تتناول مختلف الشؤون والتخصصات الحياتية.
حينما تستعرض أبرز القادة الذين غيّروا وجه التأريخ فإننا لابدّ لنا أن نتوقّف عند الإسكندر الثالث المقدوني (356-323 ق.م.)، الذي تتلمذ على يد المفكر والفيلسوف أرسطو، وهو أحد ملوك مقدونيا الإغريق. كان قائداً عسكرياً وفاتحاً من الطراز الأول، أسس أعظم الإمبراطوريات في العالم القديم.
وعند تصفّح تأريخ الصين فلابد للقارئ أنْ يتوقف عند شخصية قيادية عملاقة وهو سون تسو (551- 496 ق.م.)، حيث كان لكتابه العظيم “فن الحرب” أثراً في أقتناع الملك بقدراته ليعيّنه قائداً عاماً للجيش، ليبدأ يقيادة الجيش محققاً الأنتصارات المتلاحقة.
وفي بلاد فارس نقف أمام شخصية قيادية من طراز خاص، وهو كورش الكبير أو قورش الكبير، أوّل ملوك فارس (560- 529 ق. م.) واسمه كورش بن كمبوجية بن كورش، ويُعَدّ من أبرز وأعظم ملوك الفرس، ففي فترة حُكمه أسّس امبراطورية فارس لتكون أكبر أمبراطورية في العالم ووضع أسس الحكم الذاتي للدول التي احتلها، فكانت سبباً لاستمرار امبراطوريته لاحقاب وأجيال متعددة.
وفي الأمبراطورية القرطاجية لَمَع أسم القائد حنبعل بن حملقار برقا (247 – 182 ق.م). عسكري مازالت الكثير من نظرياته وتكتيكاته الحربية تُدَرّس وتُطَبّق حتى يومنا هذا. قادَ الجيوش القرطاجية وخاض المعارك وحقّق العديد من الأنتصارات حيث ألحَقَ بالإمبراطورية الرومانية الهزائم. وكان سرّ تفوقه يكمن في ذكاءه وعبقريته في القيادة والتخطيط العسكري، بالأضافة الى جرأته وشجاعته وشخصيته القيادية.
والملاحظ في الكثير من هذه القيادات أنّها لا تتعدى كونها علاقة بين القائد والأمة وأن نجاحه في المهمة يحدده مدى تفاعل الأمة مع آراءه ومتبنياته ومدى طاعتهم له والسير خلفه من أجل تحقيق الأهداف المرسومة.
وحينما يُضاف بعداً آخر الى الصفات والمَلَكات القياديّة وهو الأختيار الإلهي والتسديد الربّاني لهذا القائد، فإنّنا سنُدرك عظمة هذا القائد وعظمة المهمة التي جاء بها ونهض من أجلها. حينما نستعرض قائداً من هذا الصنف فلا شك ولا ريب أن رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو القائد الأوحد والنموذج الأمجد. حيث تميّز صلى الله عليه وآله وسلم بسمات قياديّة عظيمة وصفات خلقيّة كريمة جعلت منه خير البشر قيادة وعِلْماً وخُلُقاً ومنطقاً وعملاً. كان مفكراً ومخططاً استراتيجياً وحكيماً لم يدانيه في علوه أحد، لقد كان المَثَل الأعلى في القيادة والشّجاعة والعبقرية في التخطيط والتنفيذ، من خلال قراءة الواقع والمستقبل ببُعد نظر فريد.
والقيادة الإلهية ليست مُجرد قيادة اجتماعية يَحدّها زمان أو مكان، إنّما هي رحمة من الله مُهداة الى البشريّة، وأنّ قراءة وتقييم النجاح في المهمة القيادية لذلك القائد الرباني لها بعداً دنوياً بآثاره ونتائجه، وله كذلك بعداً أخروياً لا يمكن التغافل عنه. يقول المؤرخ وعالم الفلك مايكل هارت صاحب كتاب (الخالدون مائة): إن اختياري لمحمد ليأتي في المرتبة الأولى من قائمة أكثر أشخاص العالم تأثيراً في البشرية قد يدهش بعض القراء وقد يعترض عليه البعض ولكنه كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي حقق نجاحاً بارزاً على كل من المستوى الديني والدنيوي (كتاب الخالدون المائة، مايكل هارت، ص 33).
لقد وضع المحلل النفسي والأستاذ في جامعة شيكاغو الأمريكية جولز ماسيرمان ثلاث معايير لأختيار أفضل شخصية قيادية، وهذه المعايير هي: إمتلاك القائد للتكوين السليم للقيادة، وأن يوفّر لشعبه حزمة موحدة من المعتقدات، وأن يمتلك رؤية وتخطيطاً لنظام أجتماعي يستطيع من خلاله توفير الأمن والطمأنينة لأتباعه. وكان ممّا توصّل اليه كان عبر مقولته الشهيرة: (لعل أعظم قائد كان على مر العصور هو محمد الذي جمع الأعمال الثلاثة).
وحينما نَصِفُ القيادة الانفعاليّة نَجدها مُنحصرة بأولئك الذين تقمّصوا شخصية القائد غَيرَ أنّ أفعالهم كَشَفَت عكس ذلك وبيّنت حقيقة إمكاناتهم. فتراهم يُهرولون خَلف تَحرّكات خصومهم كردود أفعال آنيّة متّخذين قراراتٍ انفعالية وبرامج إرتجاليّة بعيدة عن الحكمة وبعد النظر وغير مدروسة العواقب وإنْ كانت في أغلبها تَحمل في شكلها طابع المنطق والمقبولية؛ فترى هذا القائد يتأرجح معلّقاً أخطائه على هذه القرارات الفوضوية لكي يحوّلها الى مبرّرات مقبولة في عقول أتباعه. ثم تراه بين الفينة والأخرى وحينما يميل نحو التراخي والمماطلة في اتخاذ القرارات والتخطيط الاستراتيجي العلمي تراه يتذّرع بحجج واهية وهواجس مُفتعلة كقلّة الإمكانات أو تعظيم جبهة العدو، وهذا هو عين انعدام الرؤية والجهل في تقييم الأوضاع والوهن في إتّخاذ القرارات وانعدام الشجاعة في المواجهة، وكلّها دلائل واشارات للقيادة الأنفعالية.
إن امتلاك الفكر والرؤية الواعية للأولويات والعُمق في تَحليل الأحداث والوقوف بشجاعة في مواجهة مُخطّطات الأعداء واتّخاذ القرارات بدون خوف أو تردد هي صفات ومهام القائد الاستراتيجي. فالقائد الذي يتسنّم أعلى المراتب عليه أن يُخضع قراراته ومواقفه وتحركاته لمنهجٍ استراتيجي مدروس ومُعد سلفاً وأن يبتعد عن الأرتجالية والقرارات الترقيعية الأنفعالية، فبالاستراتيجية وحدها تبنى الأمم ويحسم الصراع بالنصر، ولو بعد حين، وبالاستراتيجية العلمية ستسير الجماهير خلف قياداتها مطيعة ومؤازرة، لانها تعلم أنّها تسير خلف خطّة حكيمة ورؤية واعية وقرارات شجاعة، وتلك هي العناصر التي بها وبها فقط يحسم الصراع.
رئيس مؤسسة CHERAD (مركز بحوث التعليم العالي والدعم

الفيديو

تابعونا على الفيس