الدكتورة حسناء نصر الحسين
الحديث عن المقاومة الشعبية السورية ليس وليد لحظته، فمنذ اعلان الرئيس الامريكي دونالد ترامب منحه الجولان السوري المحتل للكيان الصهيوني، بدأ ابناء الجولان بتشكيل مقاومتهم الوطنية في وجه المحتل الصهيوني ومواجهة الممارسات الاحتلالية لهذا المحتل، لكن ظلت هذه المقاومة محصورة على ابناء هذه المنطقة السورية المحتلة اسرائيليا.
تأتي المتغيرات وتتسارع الاحداث في ظل حرب عدوانية على هذا البلد لسنوات تسع مضت، لتتوج هذه المتغيرات بما هو أبعد من هذا والمتمثل بالاحتلال الامريكي، والذي جعل من الشمال السوري وتحديدا مناطق الشمال وآبار النفط السورية جغرافيا لاحتلاله وسيطرته ونهبه لثروات هذا البلد النفطية وغير النفطية.
في مرحلة انشغلت فيها الدولة السورية وجيشها العربي بما رأوه التحدي الابرز وهو الارهاب وتطهير الارض السورية من براثن الجماعات الارهابية، ظل الاحتلال الامريكي لفترة يمارس سلوكه الاعتيادي في التآمر على سوريا والتخطيط لنهب وسرقة ثرواته السيادية، وهذا أحد تفسيرات إطالة الامريكي للحرب العدوانية على سوريا واستمرار دعم الجماعات الارهابية والحرص على ابقاءها ضمن جغرافيا تفرضها المصلحة الامريكية، وهي جغرافيا النفط السوري، وبقاء الامريكي في الشمال السوري وان باعداد تم تقليلها لاحقا للإيهام بتحقق الانسحاب الامريكي من سوريا .
تسارع وتيرة انتصارات الجيش العربي السوري وتنظيف مساحات ومناطق واسعة من الارض السورية وما يحصل من انجازات كبرى ضمن معركة إدلب، اعطى القيادة السورية فرصة إعادة ترتيب الاولويات، لتبقى هذه المعركة في رأس القائمة باعتبار ما يشكله الانتصار في هذه المعركة من إنهاء للارهاب وبالتالي انهاء للحرب وهذا ما كان أشار له الرئيس الاسد مؤخرا.
ليبرز تحد آخر تعطى له الاولوية الثانية وهو الاحتلال الامريكي والذي تجاوز حدود السيطرة على الارض الى عمليات النهب والسرقة للنفط الواسعة في الشمال السوري والمستمرة، هذا التطور في الشمال والذي يلعب بخيوطه المحتل الامريكي، دفع بالقيادة في دمشق الى تصنيف هذا التطور بالخطير خاصة في ظل عمليات السرقة المتسارعة للنفط السوري والنظر إليه كتهديد كبير، وأن التغاضي عنه قد يذهب بالوضع الى واقع أسوء مما هو قائم، فكان القرار المستند الى الارادة السياسية الرئاسية الممزوج بالمزاج والتوجه الشعبي العام باعلان الدعوة لتشكيل مقاومة شعبية عبر ما اطلقه الرئيس بشار الاسد، بما يحمله من اعلان عن مرحلة جديدة في مواجهة المحتل الامريكي نابعة من قناعة ان المقاومة الشعبية هي السبيل الأوحد لاستعادة الحق السوري وحماية السيادة السورية أرضا وثروة، وأن ما يجري في الشمال السوري لا يعني ابناء الجزيرة السورية وحدهم، فالارض لكل السوريين والنفط ثروة سيادية لكل الشعب السوري .
تأكيد الرئيس بشار على مسألة المصالحة الوطنية وتحريك هذه العجلة منذ وقت مبكر، مثل الارضية الاساسية لبناء مقاومة شعبية متماسكة عبر تمتين أواصر الوحدة الوطنية السورية وتعزيز الحالة الوطنية التي تضع الوطن فوق كل الاعتبارات، هذا مثل أساس لجبهة داخلية قوية تؤسس لنجاح مشروع المقاومة الشعبية باعتبار هذا المسار يسد اي ثغرات من الممكن ان يخترق من خلالها المحتل والعدو لإحداث خلخلة لحالة المقاومة الشعبية وضربها من الداخل، لتأتي دعوة الرئيس الأسد لمقاومة شعبية في الشمال حاملة عنوان رئيسي هو تجاوز كل العناوين والانتماءات والاعتبارات أمام التحدي الأكبر المتمثل بالاحتلال الامريكي ونهبه للنفط السوري.
الذكاء الذي أبدته القيادة السورية في التعامل مع واقع فرضه الاحتلال الامريكي عبر احتلاله لجزء من هذا البلد وسرقته لنفطه وضع القيادة في خانة الحنكة السياسية العالية في التعاطي الذكي مع التحدي القائم، ويكفي ان نستوعب ذكاء التوقيت للخطوة عبر النظر الى عدة عوامل تزامنت مع هذه الخطوة وهذا الاعلان وأولى هذه العوامل ادراك القيادة بمدى المخزون الكبير من المقاتلين ممن تمرسوا على القتال والحرب في سوريا خلال تسع سنوات وضع هذه الخطوة في توقيتها في المسار الضامن لتحقيق الاهداف المتعلقة بها، وثمة عوامل ذات ارتباط جوهري في التوقيت لهذه الخطوة ، فمن نوايا تركيا توطين مليون لاجيء سوري في الشمال عبر ما تسميه اسطنبول المنطقة الآمنة وما يشكله من تأسيس لصراع مستدام في تلك المنطقة السورية وبناء منطقة عزل بكتل ارهابية هيئتها تركيا لذلك، الى منح شركة اسرائيلية صك التنقيب عن النفط في الشمال السوري وهذا بالتنسيق مع الاكراد بما يعزز ويدعم الخط الانفصالي داخل الكيان الكردي ويغذي لهذه الحالة على المدى المستقبلي الطويل، ومن العوامل ذات الفاعلية في التوقيت هو عودة العلاقات مع الامارات والسعودية والذي ترى فيه الدولة السورية تمهيد للطريق أمامها للتواصل مع العشائر العربية التي تمثل الأغلبية في منطقة الجزيرة السورية، مما دفع برئيس مكتب الأمن القومي علي ملوك بالذهاب للقاء العشائر السورية والتنسيق معها لإطلاق المبادرة الشعبية لطرد المحتل الامريكي والتركي، وتبرز المصلحة الخليجية هنا بتوقف التمدد التركي في المنطقة العربية .
خطوتين أساسيتين قامت بهما الدولة السورية في اجواء الاعلان عن ضرورة تشكل مقاومة شعبية كتمهيد لهذا الاعلان الذي يتجاوز في حدوده التهديد السوري للمحتل الامريكي الى واقع يفرضه السلوك والمنهج والعقلية التسلطية والاستعمارية الامريكية، الخطوة الاولى قيام الدولة السورية بإبلاغ مجلس الأمن بسرقة امريكا للنفط السوري، برغم يقين الدولة السورية بعدم جدوائية هذا الابلاغ لانه لن يجد له طريق سوى أدراج الامم المتحدة، عدا ما سيشكله لاحقا من خلفية قانونية لهذه الخطوة وهذا الاعلان السوري، والخطوة الثانية قرار الدولة السورية بضرب صهاريج النفط ومنع الأمريكان واسرائيل والكرد من سرقتها، وهي خطوة يدرك الامريكي قبل غيره مدى مشروعيتها وبأكثر من غطاء تملكه الدولة السورية اذا ما اقدمت على هذا القرار .
في الخلاصة: استمرار الاحتلال الامريكي والابقاء على حالة النهب والسرقة للنفط السوري، هو الماكنة التي ستسرع في تشكل وتكوين المقاومة الشعبية السورية الوطنية، ليجد الامريكي نفسه أمام حرب عصابات يعجز أمامها عن تحقيق أهدافه الاحتلالية، ومقاومة شعبية تفقده القدرة على البقاء لأنه سيدخل حينها في حالة قوية من الشعور بالخسارة التي ستضرب حتى أرواح جنوده، وهذا ما يعتبره الامريكي كلفة عالية يقف عندها عن كل جرائمه ويرحل غير مؤسف عليه، لتتلاشى بعدها باقي الاطراف والتي تظل ادوات تنتهي بانتهاء مشغلها، وتسجل سوريا انتصارها لكن هذه المرة بمقاومتها الشعبية، الامتداد الطبيعي والرديف لجيشها العربي السوري .
باحثة في العلاقات الدولية – دمشق