د. بشارة مرهج
بين الأموال المنهوبة والودائع المسلوبة يتعرض المواطن اللبناني إلى عملية طحن لا سابق لها في الوقت الذي يتعرض فيه الأقتصاد الوطني إلى مزيد من السهام المسمومة وكأن ثمة من يريد تركيعه وتحقيق مآرب شتى من وراء ذلك. ولو كان الأمر يقتصر على جهات خارجية أحترفت الحصار والاساءة لهان الأمر لأنه يمكن، في لحظة تجلي وطنية، حشد الطاقات من مختلف المواقع لصد هذه الجهات أو أحتواء عدوانها، ولكن عندما يصل الأمر إلى أهل الحكم أنفسهم الذين يتبادلون الأتهامات ويتقاذفون المسؤوليات يحق للمرء أن يقلق ويتوجس خاصة وأن هذه الممارسات لا تتزامن أطلاقاً مع أي أجراءات عاجلة ينبغي أتخاذها – بشهادة الأكثرية الساحقة – لتهدئة الأوضاع وتحديد الخسائر.
فعلى الصعيد السياسي لا زال أهل السلطة ينكرون ما أقترفت أيديهم من جرائم، ويمتنعون عن مواجهة الأزمة التي ساهموا في إشعال نيرانها. فلا استشارات نيابية ملزمة لتشكيل حكومة أنقاذ وطني ولا أجراءات ايجابية بناءة تستهدف طمأنة المواطن.
وعلى الصعيد القضائي لا مبادرات قضائية فعالة لمحاربة الفساد والتصدي لكل من ينهب الأموال العامة أو يتوسل الظروف الحالية المضطربة لزيادة أرباحه غير المشروعة، لا بل هناك كما يعرف القاصي والداني محاولات دائمة لتكبيل يد القضاء ومنعه من ممارسة واجباته في هذه الظروف الاستثنائية.
أما على الجبهة الأقتصادية فلا يبدو أن أهل الحكم يشعرون بهول ما حدث وضرورة تدارك الوضع المتدهور بتدابير فورية تبرد من حدة الأزمة وتبدد شيئاً من المخاوف التي تقاسم المواطن مخدته، لا بل إن ما يحدث يعاكس توقعات المواطنين، ويرش الملح على الجرح الذي يشعر به كل لبناني حريص على سمعة بلده التي مرغها أساطين السياسة والمال في أوحال المصالح الذاتية. فبدلاً من أن يبادر حاكم البنك المركزي إلى توضيح الصورة ومصارحة الناس يلجأ إلى المناورة والتسويف وكأن البنك المركزي خادم أمين لأصحاب الودائع الكبيرة التي سُحبت في ليالي الأزمة، وشرطي مستبد يمارس الإذلال على أصحاب الودائع الصغيرة. والأنكى من ذلك أن الحاكم الذي لم يفهم يوماً معاناة المواطن اللبناني مع القسط المدرسي والايجار السنوي والميزانية العائلية لا زال ينكر مسؤوليته عن تقييد التحويلات والسحوبات مقللاً من شأن سعر الصرف الموازي رغم معرفته بتداعياته المزلزلة يوماً بعد يوم على الأقتصاد اللبناني المكشوف أصلاً على الأوضاع والعوامل والتدخلات الخارجية.
وعوضاً من أن يتدخل البنك المركزي للإسراع في أستعادة الأموال المسحوبة إلى الخارج ومعها جزء من ودائع المصارف لدى مراسليها، فضلا ًعن الأموال الخاصة لاصحاب المصارف (الملزمين بزياردة رسملة مصارفهم) نراه يتصرف وكأن الأمر يحدث في كاتانغا أو بوليفيا وليس في بلده الذي سلمه أغلى الأمانات. وعندما ترتفع أصوات الخبراء بضرورة تخفيض سعر الفائدة ولو بنسبة واحد بالمئة لبث رسالة إيجابية في السوق نراه يعتمد الأتجاه المعاكس إذ يقول للمصارف إذا أردتم دولاراً لتحسين السيولة وتلبية حاجات الناس والمجتمع فعليكم أن تدفعوا فائدة بمستوى 20%. وهنا نسأل لماذا هذا السعر الباهظ اليوم وقد تعودت بالأمس تسليف “بعض” المصارف بفوائد زهيدة لا تتعدى الأثنين بالمئة .
ملخص القول أن البلد لا يمكن أن يستمر على هذا النحو إلا اذا كان المسؤولون الذين أوصلوا البلاد إلى هذه الحال المزرية يبتغون من وراء ذلك كله إحداث الفوضى الشاملة للتغطية على مسيراتهم “الذهبية” وطمس معالم الجرائم التي ارتكبوها عن سابق تصور وتصميم في دولة عطلوا فيها آليات المراقبة والمحاسبة.
هذه الدوافع وحدها يمكن ان تفسر لنا أنكفاء الحكام عن المعالجة المجدية للأوضاع القائمة. استهتارهم بالارادة الشعبية بها تحت شتى العناوين وكأنهم ينتظرون حدثاً يخلط الأوراق ويشتت الأراء ويرفع المسؤوليات.
واقع الحال أنه يتعذر اليوم الخروج التدريجي من المأزق الحالي في الوقت الذي تتهرب فيه الطبقة الحاكمة (تحالف المليشيات وراس المال) من التجاوب مع مطالب الأنتفاضة الشعبية وأولها تشكيل حكومة أنقاذ وطن تتميز بالجرأة والنزاهة والمبادرة. وفي الوقت الذي تتخلى فيه عن واجباتها المالية والنقدية وتصر على سحب أموالها من السوق اللبناني وتحميل العبء كله لأصحاب الودائع الصغيرة.
لذلك لا مناص من إستمرار الانتفاضة وتصعيد الضغط على الطبقة التي جعلت وجهها من مطاط وضميرها من خشب.
كاتب ووزير لبناني سابق