محمد ولد محمد سالم
كانت صدفة جميلة أن ألتقي في معرض الشارقة الدولي للكتاب بشاعر موريتانيا أحمدو ولد عبد القادر، والأجمل من ذلك أن تكون روايتي “دحّان” هي أول موضوع يتطرق إليه في حديثي معه.
قليلة هي الصدف الجميلة في عالم الأدب، لمن كان مثلي، كاتبا روائيا موريتانيا، فمن النادر أن يصادف ما يبهج قلبه، ويشجعه على المضي قدما في معركة الكتابة المضنية، سواء في موريتانيا أو خارجها، ففي موريتانيا لا تنتهي الإحباطات التي سيصاب بها، بدءا بالنشر الذي يبدو عصيا، ولن يجد له طريقا، لا في الوزارة المسؤولة عن الثقافة، ولا في غيرها، فالاهتمام بالرواية معدوم تماما، ولا أظن أنها معترف بها لدى المصالح المعنية بالإبداع في وزارة الثقافة، التي لا تزال تعتبر الشعر وحده هو “الأدب الجدير بالاهتمام”، وإذا ما قررت بصورة نادرة أن ترصد دعما أو تشجع إصدارا أدبيا، فلن ينصرف تفكير مسؤوليها إلا إلى الشعر، ولم نسمع عن أي نشر تشجيعي من طرف لروايات موريتانية، أحرى أن نسمع عن تكريم أو جوائز لروائيين، وهذا أمر غريب لأنه ومنذ ثمانينات القرن الماضي إلى اليوم ظهر الكثير من الروايات، وهناك أسماء روائية بارزة اليوم، بدءا بأحمدو ولد عبد القادر نفسه الذي كان رائدا للرواية في مطلع الثمانينات، بروايتيْه (الأسماء المتغيرة، القبر المجهول)، وموسى ولد أبنو ومحمد ولد تتا، ومحمد الأمين ولد أحظانا والشيخ ولد أحمدو، والمختار السالم أحمد سالم ومحمد ولد أمين، ومحمد فاضل ولد عبد اللطيف، ومحمد ولد محمد سالم، غيرهم كثيرون لا يزالون يكتبون وينشرون ما تيسر بوسائل في كثير من الأحيان بسيطة، ويبقى الكثير مما يكتبونه حبيس الأدراج، لا يجد من ينتشله، ويقدمه للقارئ، وإذا تجاوزنا مشكلة النشر، وافترضنا أن الكاتب حصل بأية طريقة على نشر، فسوف تظهر مشكلة التوزيع والترويج للكتاب، وتوصيله للقارئ في المكان الذي هو فيه، انحسرت فيه عادة القراءة كثيرا بعد أن كانت نسبها مرتفعة في ثمانينات القرن الماضي، ولن يصل الكتاب إلى القارئ إلا بدعم ترويجي من قبل المؤسسات المسؤولة عن الكتاب والثقافة، وحتى إن افترضنا أن الكتاب وصل بطريقة ما إلى القارئ، ووجد إقبالا، فلن يكون ذلك ذا مردود على الكاتب، الذي لن يجني من وراء كتابه أوقية واحدة، في الوقت الذي هو في أمس الحاجة إليها، ولن يعدم الناشر أية حجة لعدم صرف حقوقه له.
أما عن النقاد وكتاباتهم عن الروايات الجديدة وتناولهم لها بالنقد والتقييم، فهذا غائب أصلا في موريتانيا لأن الصحافة الموريتانية، وعلى مر تاريخها الحديث، لم تبلور رؤية لما يسمى الصحافة الأدبية، ونادرا ما يكتب عن الإبداع الأدبي في صفحات الصحافة، وإذا كتب عنه ففي الغالب يكون ذلك عن الشعر، باعتباره الأدب السائد والرائج، ولا تجد الرواية تناولا لها خارج البحوث الجامعية القليلة، والتي في الغالب لا تتجاوز حدود أرشيف الجامعة، وحتى الروايات التي تحظى بالبحث والدراسة لا تخضع إلا لمزاج الطالب وحدود معرفته القاصرة بالرواية الموريتانية.
على المستوى العربي، فالمعلومات عن موريتانيا لا تتجاوز في الغالب كونها بلدا يقع على خريطة الوطن العربي، لكن، يجهل الكثيرون أن أهلها يتكلمون اللغة العربية، وتنصرف أذهانهم عند ذكرها إلى بلدان أخرى تنتمي إلى الجامعة العربية، لكنّ اللهجات السائدة فيها غير عربية، على العكس من موريتانيا التي تسود فيها اللهجة الحسانية التي هي لهجة عربية عريقة، وهذا التصور الخاطئ عن موريتانيا يجعل الكثيرين لا يتوقعون أن يوجد فيها أدب عربي، ولا يمتلكون خلفية أدبية عنها، وإن كان هناك من له خلفية عن أدبها، فهي في الغالب لا تتجاوز اللقب المشهور “بلد المليون شاعر”، وحسب، وهو لقب جميل حري بنا أن نفخر به، وهو يشير إلى حقيقة رواج الشعر في موريتانيا بشكل واسع جدا يصل إلى حد التعاطي الشعبي منذ عدة قرون، لكنّ القليلين هم الذين يعرفون هذا اللقب، ويضعون له اعتبارا، فأين موقع الرواية في الموريتانية في خارطة التصور العربي لأدب موريتانيا؟، إنها خارج هذه تلك الخارطة تماما، فهي معدومة، وربما يقع اللوم في ذلك علينا نحن الموريتانيين أكثر من غيرنا لأننا، لم نبتكر بعد طريقة نوصل بها أدبنا إلى الآخرين، سواء على مستوى النشر أو الحضور الإعلامي أو على مستوى المشاركات الخارجية في التظاهرات الأدبية العربية، لكنّ هذا الجهل بالرواية الموريتانية أصبح عائقا أمام الكتاب الموريتانيين للوصول إلى الإعلام العربي، والناشر العربي، وبالتالي القارئ العربي، وكذلك للوصول إلى الجوائز العربية، فالرواية الموريتانية لا تتعدى في الغالب مرحلة الفرز الأولية المسابقات، لأنه لا أحد من لجان التحكيم يتوقع أن في موريتانيا كتابا روائيين، ولذلك فمن هذه الخلفية، يكون من السهل عليه حين تمر عليه أن يضعها دون كبير تردد خارج خياراته، وحتى إن تجاوزت رواية موريتانية مرحلة الفرز، ففي المراحل المتقدمة للفوز حسابات كثيرة تتعلق بزخم الحضور الأدبي لدولة ما، وبقوة دار النشر وصراعاتها على الفوز، وبميول النقاد والمحكمين الذين يبحث بعضهم عن أشياء قد لا تتعلق بتقنيات أدب الأدب الروائي بقدرما تتعلق بقناعات وانحيازات ذلك الحكم، وهو ما لا تستجيب له في الغالب الرواية الموريتانية.
كان لقائي برائد الأدب الموريتاني المعاصر، شاعر النضال والتحرر أحمدو ولد عبد القادر مناسبة فريدة، حملت لي فرحة خاصة، ليس لأنني تعرفت عليه، وإن لم أكن حدثت بيني وبينه لقاء خاص نظرا لفارق العمر، ولظروف كل منا، إلا أنني أعرفه، جيدا، وكيف لا وهو من هو قدرا، وتأثيرا في التاريخ الأدبي الموريتاني المعاصر، فأنا أعرفه منذ كنت تلميذا في الابتدائية أنشد مع التلاميذ قصيدة في الجماهير تكمن المعجزات ومن الظلم تولد الحريات، وأعرفه منذ كنت فتى أستمع إلى أغنيات الفنانتين الكبيرتين ديم بنت آبّه، وتكيبر بنت الميدّاح، وهما ترددان أشهر قصائده وأكثرها حماسية ووطنية وعروبية، وأعرفه منذ أصبحت شابا أرتاد المهرجانات والملتقيات الأدبية، وأستمع إليه من على المنبر وهو ينشد:
عرّج بلبنان واذر الدمع منسجما وابك الهموم ولا تستنهض الهِمما
وأعرفه منذ أن قرأت روايتيْه القبر المجهول والأسماء المتغيرة، اللتين أضافتا إلى ريادته في الشعر ريادة جديدة في الرواية الموريتانية مطلع الثمانينات من القرن الماضي، لقد تشكلت ثقافتي من ضمن ما تشكلت منه من أشعار ذلك الرائد العظيم، كما هو حال أجيال قبلي وأخرى بعدي.
ما أفرحني في لقائي بأحمدو ولد عبد القادر أنني وقد دخلت عليه في إقامته في الفندق رفقة صديقي الشاعر الروائي المبدع المختار السالم أحمد سالم جاء معه ضيفا هو الآخر على المعرض، فلما عرفه بي مد لي يده، وقال مستفسرا، هو هذا؟ أنا أعرفه “لقد قرأت له رواية عجيبة” وكرر بعد ذلك، وكان يعني رواية “دحّان”، قائلا: “روايتك بديعة، وآسرة، وهي تقدم تفاصيل نعرفها نحن، وترتبط بحياة عايشناها”، وقال لي المختار السالم بعد ذلك أنه لم يتوقف عن الحديث عنها والإعجاب بها، كلما جاء ذكري في حديثهما، وقد كانت ردي حين تكلم بذلك الإعجاب عن رواية “دحّان” أن تلك شهادة أعتز بها، وأعتبرها تاجا على رأسي، وهذه حقيقة، فهي ليست شهادة قليلة.
ما أفرحني في شهادة ولد عبد القادر عن روايتي أنه أولا قرأها، وهذه ميزة نادرة في كثير من أدبائنا، فقد يقرأون الشعر والمقالة والكتاب في مجال ما، لكنّهم نادرا ما يقرأون الرواية، ليست لدى المتأدبين والمثقفين في موريتانيا عادة قراءة الرواية، فكون ولد عبد القادر يقرأ الرواية، ويتابع ما يستجدّ منها، ويقدم رأيه بكل تجرد، فهذا أمر مبهج، وحري بالتقدير، وهو جدير بأن يكون كذلك، أما السبب الثاني لهذه الفرحة فهو ذلك التقييم الكبير الذي قيمها به، والذي يؤكد لي أنني لم أكبت شيئا عبثا، وأنه قد يأتي اليوم الذي أجد فيه ثمرة جهدي، وأن الإطراء حصلت عليه هذه الرواية منذ نشرها إلى اليوم، من طرف كتاب وأدباء وأصدقاء متنوعي المشارب، لم يكن مجاملة، وإنما كان نابعا مواقف نقدية حقيقية.
أتابع بدأب ما ينشر من روايات عربية، وخاصة الروايات التي تفوز بالجوائز الكبيرة، كما أتابع ما ينشر من روايات موريتانية، وأظن أن كتابنا يسيرون في نفس المسار الذي تسير فيه الكتابة الرواية العربية الراهنة، وأن لدينا كتابا لا يقلون أهمية عن نظرائهم العرب، وأرجو أن يأتي اليوم الذي تلتفت فيه الجهات المسؤولة في بلادي إلى روائيينا، فتشجعهم، وتكرمهم، وتسعى إلى إبراز إنتاجهم في المحافل العربية والدولية، حتى يُسمع صوتهم ويحصلوا على التكريم الذي يستحقونه.