سعادة الدكتور: لك في البداية تهنئة مستحقة ، وأنت تعيش لحظات فرح استثنائية على الصعيدين الشخصي والوطني، كيف لا وأنت تعتمر الألوان الوطنية المهيبة وقد تخرجت من كلية طب وطنية بشهادة دكتورا في الطب موريتانية الوجه واليد واللسان، نمنحها ـ بعد نصف قرن من الاستقلال المهيب ـ لأبنائنا بخبراتنا وإمكاناتنا وإرادتنا وطموحنا القديم المشروع في تخريج أطر وكفاءات وطنية، تحمى كياننا وترفعه بسواعدها إلى مصاف الشعوب والأمم المتقدمة في شتى المجالات..؟!! نقاسمك كل ذلك الفرح، وأنت تجسد حلما وطنيا جميلا ونبيلا، هرمت في انتظاره ـ ومنذ الاستقلال الأشم ـ أجيال من الموريتانيين، واليوم تفيض أعيننا دمعا ونحن نراه على الأرض واقعا نعيشه، لا حلما كان دون تحقيقه "خرق القتاد"..!! سعادة الدكتور:
لا تتوقع أن تستقبل في الميدان بأكاليل الزهور، ولا أن تبسط لك الفرش الحمراء، ولا تتوقع أن يكون دربك منيرا سالكا وصقيلا، فقد اخترت مهنة معاناة من المهد (الدراسة) إلى اللحد(التوظيف)، في بلد يملك ساسته من "العنتريات" أكثر من ما يملك قطاعه الصحي من إمكانات ووسائل..!!
لقد دخلت من الباب المظلم مهنيا وماديا ومعنويا، وعليك أن تملك قدرة كبيرة على الصبر والتحمل، وأن تستمر واقفا رابط الجأش، حتى وأنت تنهار مرهقا أو منسيا ،أو ميتا بمرض معد ، أو بسكتة قلب، ذات "حادث عمل"..!! ستسمع من المجتمع ـ الناقم على حكوماته المتعاقبة ـ أذى كثيرا، فأنت "الحائط القصير" الذي يعبره المواطن هربا من انتقاد الحكومات، وتتسلقه الحكومات تهربا من مسؤولياتها اتجاه مواطنيها.
ستسمع من الشتائم والسباب ومحارم اللسان في حقك ،وحق مهنتك، بل حتى في حق أهلك وعشيرتك الأقربين ما لم يقله "مالك" في الخمر، فأنت في المسافة الفاصلة بين مجتمع غاضب من حكومات أهملت قطاع الصحة وأغرقته بالفوضى، وبين دولة متنصلة من كل مسؤولياتها الإدارية والأخلاقية اتجاه القطاع وعماله والمستفيدين منه. ستعيش حياتك المهنية مجرد "لحم رقبة" يأكلونه أكلا لما ويذمونه ذما ذما ..!!
أنت ـ سيدي ـ في مرمى النيران (غير الصديقة)، والجميع من حولك مختلفون في كل شيء، وعلى كل شيء، باستثناء استهدافك وتحويلك إلى مشجب يعلقون عليه إحباطاتهم وإخفاقاتهم وهزائمهم وصراعاتهم.
يطلبون منك الرحمة ـ وهي رسالتك ـ وهم لا يرحمونك، تعاملهم بإنسانية ـ هي جوهر مهنتك ـ يرونك أقل وأذل من أن يعاملوك بها،يأمرونك بالاستقامة ـ وهي غاية مهنتك ووسيلتها ـ وهم لا يعرفون إلا اسمها فقط..!! ستقول الحكومة إنها وفرت كل شيء للقطاع ،لكنك العقبة الكأداء في سبيل النهوض به وترقيته والرفع من مستوى خدماته، وستجند للترويج لذلك وزراء وصحفيين وسياسيين وغيرهم.
وسيقتنع العامة بذلك الخطاب الرسمي الكاذب، فيأتون إليك مشحونين مستعدين لا لشتمك فقط ولكن أيضا ل"معاقبتك" بالاعتداء عليك بدنيا، لأن الحكومة بالنسبة لهم صادقة، وأنت الكاذب والمستضعف، ولا رأي لك، بل لا نقاش معك. سعادة الدكتور:
ستكتشف ـ ومن أول لحظة ـ الفرق بين ما درسته وما ستعاينه، بين المثاليات الطبية، وبين وحشية الواقع وساديته، بين ما يجب أن يكون، وما هو كائن..!!
ستقضى سواد ليلك ووجه نهارك في أقسام المستشفيات البائسة الفارغة إلا من المرضى والعمال، وأنت تتقاضى أحقر راتب في الدنيا من حولك، إذا حدثت معجزة وزادته الدولة بألف أوقية ضربها التجار في عشرة، فأضافوا على سعر الحليب ألفا، وسعر الدقيق ألفا، وسعر المحروقات ألفا، وسعر الزيت ألفا، وسعر الخبز ألفا ، وسعر الأرز ألفا، وسعر المكرونة ألفا، وسعر الخضروات ألفا، وسعر اللحوم ألفا، وسعر الدواء ألفا..!! راتب يأكل منه "فيروس" التجار ما بقي بعد "متلازمة" الضرائب المجحفة ..!! وخلال المداومة سيكون عليك أن تكون متعدد التخصصات والخدمات، فتعاين ـ وأنت الطبيب العام ـ الأطفال، والحوامل، ومرضى القلب، والسرطانات، والإسهالات، والكسور، والأعصاب، والإصابات النفسية، وغيرها، وستذرع المستشفى جيئة وذهابا، وأنت تقوم بدور المرشد والموجه والمستقبل للمرضى، فتبحث عن أكياس الدم، وعن الإداري المداوم، ومتعهد بيت الرحمة، وسائق سيارة الإسعاف، ومصلح الكهرباء، وسعاة الغرف، ووكلاء الأمن، وعمال النظافة. ستكتب عشرات الوصفات لمرضى بحاجة لمسكنات ألم، ومضادات تقلص والتهاب، ومضادات حيوية، وأدوية حساسية، ومقابل تلك الوصفات ستحصل من "الدكاكين" التي يسمونها ـ تجاوزا ـ صيدليات على خلطات عجيبة غريبة المصدر والمنبت والمصنع، هي في الغالب بقايا "نخالة" و"غلال"، ومسحوق "كعك" بلدي، وبعض من أوراق الأشجار، و "رجيع" الحيوانات، وصوفها وقرونها وريقها. لن يجد مريضك الشفاء وهو يستعمل تلك الخلطات الغامضة ، وتذكر أنك في بلد فوضوي لا يملك إرادة ولا إدارة صارمة لمراقبة الأدوية والتأكد من جودتها. إنه بلد يتحكم فيه التجار الباحثون عن الربح ،ولو ذهب الوطن والمواطن إلى الجحيم.!! لا تفكر في الوطنية والمهنية والتسامح والحب والإنسانية، فمكانها أوراق دفاترك أيام الدراسة، وليس هنا في الميدان. سيصبون عليك جام غضبهم ،وسيعبرون النهر وهم يشتمونك، أو يطيرون إلى تونس والمغرب وهم يصبون عليك اللعنات، وحتى لو قيل لهم إن تشخيصك للحالة دقيق، و إنهم ليسوا بحاجة لأكثر من وصفتك التي كتبت ولكن شريطة التأكد من جودتها ومصدرها، فلن يشفع لك ذلك عندهم. سيرونك شاحبا، تفقد وزنك يوميا تعبا ونكدا وإحباطا،وسيطوى النعاس والإرهاق وسوء التغذية قسمات وجهك، فيحكمون عليك بسوء الأخلاق، وعدم طلاقة الوجه، دون أن يتوقفوا للتفكير في وضعيتك، وأنت تجرى على مدار الساعة في مستشفيات كل شيء فيها طارد ومحبط ، من قرص الدواء المزور، إلى الأجهزة المعطلة، مرورا بالتسيب والفوضى الإدارية والتقنية والأخلاقية. ثق أن تقدماتك وترقياتك وعلاواتك المستحقة قد لا تصادفها إلا في "البرزخ"، هذا إذا لم تدخل مستنقع الرشوة والوساطة والابتذال المهني والأخلاقي، سبيلا ملتويا للحصول على حقوقك التي يفترض أنها تلقائية وطبيعية..!! ستصبح بعض العبارات أليفة في أذنيك وكأنها أدعية الصباح، وأذكار المساء، وعبارات التحية اليومية..!! جزار، ملاكم ،جاهل، مرتش، مرتزق، سيئ الأخلاق، عبارات ستطاردك في المستشفى والسوق، والمنزل وسرير النوم ، وربما على "الآلة الحدباء"..!! سعادة الدكتور: إذا لم تملك قوة استثنائية على التحمل، فتوقع أن تنفجر نفسيا.. كيف لا والجميع يشتمك، المريض ومرافقوه، والإدارة والحكومة، وصاحب الدكان، ومصلح العجلات؟!! وسيقال لك إن الأطباء الموريتانيين "خيرهم من مات فبالت الثعالب على قبره" سيقال لك إنك جاهل لأنك تكونت محليا، وكان ينبغى أن تسافر إلى الخارج لمواكبة تطور الطب أجهزة وتقنيات وأساليب، وأنك "محلي الصنع" لا يرجى منك نفع ،مثل "الصابون الموريتاني"، و"الأرز الموريتاني"، و"عود الثقاب الموريتاني"، و"السردين الموريتاني"، فكل شيء منسوب لموريتانيا يكرهه المواطنون الموريتانيون، يتندرون عليه صباحا، ويصبون عليه لعناتهم مساء. لا تبتئس، فحتى زميلك الطبيب المتخرج من أرقى الجامعات الأجنبية، يقال له يوميا إنه جاهل لأنه لا يعرف طبائع الناس هنا، ولا أمراضهم، ولا نفسياتهم، ولا يعرف إلا الأجانب الذين درسوه أمراضهم لا إمراضنا، وطبائعهم لا طبائعنا ،وطبهم لا طبنا..!! لا فكاك من استهداف الأطباء في بلادنا، فلا يشفع لك أنك تكونت هنا ،كما لا يشفع لزميلك أنه تكون في الخارج..فأنتما تحت حد سكين المجتمع المتجاهل والحكومات المتحاملة سواء..!! ستعلق عليك الدولة فشلها في تنظيم القطاع ومراقبته، وسيعلق عليك المواطنون تذمرهم من سوء أحوال القطاع، وغضبهم من الحكومة، هم لا يجدون الرئيس ولا الوزير، أما أنت فتستقبلهم يوميا، فتوقع أن تفقد عينك، أوسنك، أو رجلك، أو عقلك، بضربة (لازب) من مرافق لمريض لا يريد إيذاءك، بقدر ما يريد التعبير ـ عبر جسدك ـ عن سخطه ونقمته على الوزير والرئيس، وهما "الذبيحان" اللذان تهون دماؤك فداء لهما، ومن أنت وما قيمتك وما أهمية شهادتك وأين أنت من شعث نعل أحدهما..؟!! ستلعب ـ ما حييت ـ دور "زوجة" الرجل الذي يقهره الجميع، فيقتص منهم بقهرها والانتصار عليها، حسب المثل الشعبي السائر..!!
ستكون أقصر "حائط" في هذا الوطن يتسلقه الفاشلون والمحبطون والسفلة. سيضربك الجندي، والميكانيكي، ويستفزك العامة، ولن ينتصر لك قانون ولا عرف، فأنت "الحلقة الأضعف" مهنيا ووظيفيا، يجازى على ضربك ولا يعاقب على شتمك..!!
لن يرعى فيك أحد إلا ولا ذمة، سيهدونك عيوبك وعيوبا معها كل صباح، ثم ينثرونها جنوب النهر، ويوزعونها بسخاء في مطارات العالم التي يجوبونها بحثا عن وطن لاعن علاج، وعن قانون ودولة قوية ومهابة تحترم مواطنيها، لاعن تشخيص دقيق.
أنت بالنسبة للعامة ستكون بمثابة الشجرة التي تخفى غابة من عورات الحكومة والقطاع الصحي، والفوضى "الخناقة" التي تجتاح البلاد. تذكر أنك في بلد لا قيمة فيه للمواهب والكفاءات، والطبيب فيه يخدم حتى الموت دون أن يذكره ذاكر أو يزوره زائر، وكأن سترته الطبية "أبلوز" ـ وبلونها الأبيض الصقيل الذي يحيل إلى لون الكفن ـ لا تختلف عن الزي الذي يلبسه "الإنتحاريون"، وهم في رحلة اللاعودة..!!
لست بحاجة لتذكيرك بزملائك وإخوتك ـ من الأطباء والممرضين والقابلات وأعوان الصحة ـ الذين ماتوا منسيين في المستشفيات والمراكز والنقاط الصحية على طول البلاد وعرضها، وهم يواجهون الحميات النزيفية، والإسهالات، ومختلف أنواع الأوبئة دون أن يلتفت نحوهم أحد لا فوق الهرم، ولا في الهوة السحيقة..!!
أين ذكراهم و تضحياتهم..؟ أين أسرهم..؟ أين خدمتهم للبلاد والعباد..؟ أين تفانيهم في الخدمة ونبلهم المهني والوطني..؟!!ا
كل ذلك ذاب ـ مع شبابهم وأرواحهم وحياتهم ـ كقطعة ملح في ماء فاتر..!!
دخلت ـ سيدي ـ من الباب المظلم، ولن يشع في حياتك إلا نور الضمير الوطني والإنساني، ونور المهنية والكفاءة، فحاول أن تسير على هدي ذالك النور، ولا تلتفت حولك، فهذه غابة ظلم ونسيان ونكران للجميل. كن مؤمنا بالله ومهنتك وموريتانيتك وضميرك ، متعاليا على الجراح ، أكبر من الذين يسيؤون إليك وإلى مهنتك، وسر مرفوع الرأس حيا أو ميتا، ولا تأس على هذه "القرية الظالم أهلها" وتذكر أن قدوتك ومثالك في الحياة الرسول محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم رشقه أهل الطائف بالحجارة حتى دميت قدماه ـ وهو الذي جاءهم يحمل الحب والحرية والحق والصراط المستقيم ـ فلجأ إلى ظل شجرة وهو يقول : "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". قمة التسامح والإنسانية والحب، لم يجابههم، لم يسع لمواجهتهم، لم يطلب ربه أن يزلزل بهم الأرض، ولو طلب لنفذ طلبه، وهو الصادق المصدوق المصطفى، بل طلب لهم الهداية في دعاء خالد يستبطن رحمة ورأفة وتسامحا وإنسانية لا يعلى عليها..!!
استحضر تلك الصورة الجميلة، واخدم وطنك ومواطنيك بإخلاص ومسؤولية، مهما تجاوز في حقك الجميع حكومة ومجتمعا. أنت رسول رحمة، وملاك أمل، فبلغ رسالتك، ورفرف بجناحيك الملائكيين، وانشر قيم الطب الحقيقية من رحمة ومحبة ومواساة، واطلب الهداية لحكومتك ومجتمعك، فهم لا يعرفون لك قيمة ولا يقدرونك حق قدرك، وثق أن ليل الظلم والتهميش والنسيان إلى زوال، وان وراء "أكمة" هذا الليل البهيم فجرا صادقا من الحب والوطنية والعدل والإنصاف. أتمنى لك التوفيق في مسيرتك المهنية