د. محمود البازي
«يقول عامة الناس ان “رأس المال جبان”، لكن الرأسماليين، أو أصحاب رؤوس الأموال إن أردنا تلطيف المصطلح، لا يعترفون بهذه المقولة.. هم يستبدلونها بتعبير آخر يعتقدون انه أكثر دقة، فيقولون أن “رأس المال حكيم”.. فقرارات الاستثمار لا تحكمها العاطفة وإنما تحكمها الدراسات المعمقة التي تستشرف إمكانيات الربح والعائد المرتفع وتقارن ذلك كله بالتكلفة وبالبدائل المتاحة في السوق».
هذه المقدمة نقلتها عن صحيفة “الرياض” السعودية ولم أستطع التأكد من تاريخيها. ولكن على ما يبدو لا يوجد أحد غير صحيفة الرياض تعتبر بأن رأس المال غير جبان. فهذه المقولة أثبتت فاعليتها ليس فقط على مستوى التجار والمستثمرين فحسب بل ثبتت صحتها بالنسبة لعوام الناس. فالشخص العادي لا يخاطر حتى بشراء علكة تحوم حولها الشكوك. لا بل ينظر إلى تاريخ انتهاء صلاحيتها والشركة المنتجة لها. وهو بذلك يمارس حقه بالإبتعاد عن المخاطر التي هو بغنى عنها. والمستثمرون كذلك أكثر حرصا على أن تكون أوضاع الدول مستقرة إلى الحد الذي يستطيعون إستثمار أموالهم بأريحية ويبتعدون عن هامش المخاطرة وعلى عكس ما تقول صحيفة الرياض فهؤلاء ليسوا حكماء أبدا بل هم جبناء وهذه الصفة ليست مذمة أبدا في المجال الإقتصادي.
تنوي السعودية طرح أسهم شركة أرامكو للاكتتاب المحلي والدولي في الأيام القادمة ويقف العالم متفرجا على أكبر اكتتاب في العالم. إلا أن المستثمرين عليهم أن يبحثوا ويحققوا جيدا في المكان الذي سيستثمرون به. وعليهم أن يعرفوا بصورة مسبقة أين يضعوا أقدامهم خوفا من وضعها في مستنقع لا مفر منه.
وهكذا من الضروري ربط السياسي والأمني بالإقتصادي، إذا ما رفضوا ربط الإقتصادي بالأخلاقي. إذا ما قبلنا جدلا بأن المستثمرين لا يدخلوا العنصر الأخلاقي في حساباتهم (وهذا غير صحيح).
فعلى الصعيد الأمني والسياسي هل بلد الإستثمار (السعودية) مستقرة حاليا ولا تعاني من مشاكل مع جيرانها، مما يسمح بجلب استثمارات ضخمة إلى البلاد؟
لا، الجواب الصريح والواضح للقارئ العربي وغير العربي هو لا. فعلى مستوى الحروب فإن آخر هجمة قام بها الحوثيون ضد السعودية بمجموعة من الطائرات المسيرة (بحسب الرواية الحوثية) قد سببت بتعطيل أهم حقول النفط في السعودية حيث قال وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان، في بيان له: “إنّ الهجوم نتج عنه “توقّف عمليّات الإنتاج في معامل بقيق وخريص بشكل مؤقّت والهجوم أدّى إلى “توقّف كمّية من إمدادات الزيت الخام تُقّدر بنحو 5.7 مليون برميل، أو حوالي 50% من إنتاج أرامكو”. بالفعل هجوم واحد فقط أدى إلى تعطيل إنتاج السعودية من النفط إلى 50% واستمرت عمليات إصلاح هذه المنشآت أياماً مما دفع السعودية إلى استخدام نفطها الإحتياطي المخزن لتلبية رغبات المشترين. ولم يخفى على أحد الكم الهائل من الخسائر التي تعرضت لها السعودية نتيجة هذا الهجوم والتي قدرت ب350 مليون دولار يوميا. كل هذا ونحن نقول بأن من نفّذ العملية ضد السعودية هم الحوثيون والمصيبة الأكبر إن قبلنا الرواية السعودية- الأمريكية وسلمنا جدلا بأن من نفذ هذه العملية هم الإيرانيون فالمصيبة أكبر لماذا؟
المصيبة أكبر لإن هذا الهجوم تم بواسطة 20 طائرة مسيرة و6 صواريخ كروز بحسب الرواية السعودية. فإن كان المتهم إيران، فتكون إيران قد شلّت الإقتصاد السعودي بهجمة واحدة بسيطة وغير معقدة وغير مكلفة. دون أن تحرك أساطيلها البحرية أو قواتها البرية أو الجوية، وهذا ليس تهويلا للقوة العسكرية الإيرانية بل هو وصف للحالة التي نحن أمامها. لا يختلف إثنان على امتلاك إيران قدرات صاروخية قوية وفريدة من نوعها في المنطقة. فإن كانت هذه الهجمات البسيطة نسبيا والتي لم تتجاوز في مدتها الزمنية ساعات قد أضرت بالإقتصاد السعودي إلى هذا الحد بل ولم تستطع الرادارات السعودية أو الأمريكية اكتشافها فما بالك بحرب شعواء تمتد لأسابيع بين السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية. المصيبة الأكبر أيضا ليست هنا المصيبة الأكبر إن من يتعنت ويرسل رسائل متناقضة بشأن عملية السلام في منطقة الخليج هي السعودية. فمن جهة تدعو إلى حلول سياسية ومن جهة أخرى تستقدم 3000 جندي أمريكي لحمايتها. وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على عدم الإستقرار الأمني بالمحيط السعودي. فالمستثمرين الجادين ينظرون إلى هذه التصرفات وهذه الأفعال على أنها خطر يحدق بإستثماراتهم وهو خطر يجب أخذه بالحسبان. فالحرب وإن كانت مصدر رزق لبعض التجار المحليين إلا أنها كارثة للمستثمر الخارجي الذي يستمثر بمليارات الدولارات. وإذا ما بقينا بنفس الموضوع وتحدثنا عن الموضوع اليمني والذي كلّف السعودية مليارات الدولارات منذ بداية حربها ضد اليمن وهي مستمرة بهذه الحرب دون أي محاولة لإنهائها أو جمع الأطراف على طاولة حوار تخرج بحلول لإنهاء الحرب هناك. ومن وجهة نظر عسكرية فالحوثيون يوما بعد يوم يزدادون مهارة وقدرة عسكرية وهو ما يجعل السعودية تفتقر للأمن والأمان على حدودها القريبة. ولن نذهب بعيدا ف “قطر” وحصار قطر الذي استمر سنوات هي مؤشر آخر على التخبط الآمني الذي تعاني منه السعودية فعلى سبيل المثال ذكر موقع The Intercept بأن السعودية كانت تنوي غزو قطر في عام 2017 لولا تدخل وزير الخارجية الأمريكي السابق “ريكس تيلرسون”.
عزيزي القارئ والمستثمر نحن نتحدث عن مسؤولين (غير مسؤولين) يتخذون خطواتهم في لحظات متهورة دون خطط استراتيجة وأهداف بعيدة المدى. لا بل أنهم لا يعرفون شيئا عن “الجدوى الإقتصادية”، وهي موازنة الأرباح والخسائر ومن ثم اتخاذ القرار بشن الحرب أو فرض الحصار. كل ذلك كان غيض من فيض في السياسة الخارجية السعودية والتي ستؤثر سلبا على الإستثمار في الداخل السعودي. ولإيفاء الموضوع حقه رأينا أن نناقش الأوضاع الداخلية السعودية وأثرها على الإستثمار في مقالة لاحقة.
كاتب ومحلل سياسي/ دكتوراة في القانون
عضو في كرسي حقوق الإنسان (اليونسكو)