د. عزيزة عبد العزيز منير
خرجت ملايين المواطنيين فى أكبر مظاهرة مناهضة للحكومة فى لبنان منذ 15 عاما, مطالبين بوضع حد للفساد من خلال القضاء على النظام الطائفى و التخلص من كل النخبة الحاكمة.
في هذا الصدد ، أود أن أجيب على سؤال عن أسباب فساد النظام السياسى فى لبنان. الجواب ذو شقين: أولاً ، اتفاق ما بعد الحرب الأهلية في لبنان ، حيث اتفقت الأطراف المتصارعة على التخلي عن القوة العسكرية والانخراط في عملية بناء السلام. صحيح أن اتفاق الطائف أنهى سنوات الحرب الأهلية المريرة و هدف إلى إنهاء النزاع الطائفى المقيت ، لكنه في الحقيقة كرَّس الحكم الطائفي من خلال المحاصصة الطائفية والمذهبية بين أمراء الحرب؛ وهو ما بقي مستمراً حتى اليوم، وجعل البلد لبنان ساحة لصراعات القوى الإقليمية مثل سوريا و ايران.
ثانيا: فى مرحلة ما بعد الحرب الأهلية تشكلت ملامح الإقتصاد الريعى غير المنتج unproductive rentier economy فى لبنان و الذى يدور حول القطاع المصرفى و المشروعات العقارية. إلا أن هذا الريع, من جانب, منح الدولة الهشة quasi state و قتها مزيدا من السلطة دون قدرة على القيام بمهمامها بفعالية و على الجانب الآخر كرَس الفوارق الكبيرة فى الدخل بين النخب الحاكمة و باقى الشعب. وفقا لنتائج دراسة أجراها هانس بومان Hannes Baumann عن أسباب فساد النظام الإقتصادى فى لبنان, فإن 10 فى المائة من أصحاب الدخول حصلوا على 57 فى المائة من اجمالى الدخل القومى فى لبنان عام 2014, فى حين حصل 50 فى المائة من أصحاب الدخول على 11 فى المائة فقط من إجمالى الدخل فى نفس العام.
عطفا على ذلك فإن لبنان تعُد من أكثر الدول فى منطقة الشرق الأوسط استقبالا للمساعدات الخارجية foreign aids والتى كثيرا ما أُسيء استخدامها. و يشير مركز المشاريع الخاصة الدولىة The Center for International Private Enterprise أن الإفتقار إلى الشفافية المحيطة بالمساعدات المالية الأجنبية- و خصوصا فيما يتعلق بأوجه إنفاقها و تأثيرها الفعلى على تحقيق التنمية فى لبنان- يُسبب ما يعرف بظاهرة رأس المال المتآكل coorosive capital. يرمز هذا المصطلح الى عدم قدرة الدولة المستقبلة للمساعدات عن تقديم معلومات واضحة عن كيفية تخصيص هذه المساعدات و كيفية الإستفادة منها, مما يؤدى الى تفاقم مشاكل الحوكمة و يقوض المصلحة العامة.
وبإستمرار هذه الحلقة المفرغة من سعى النظام للحصول على المزيد من مصادر الريع بدلا من تطوير الانشطة الإنتاجية, و سيطرة النخب الحاكمة على الموارد و توجيها لشبكات المحسوبية الخاصة بهم Patronage networks, لم يعد هناك حافزا قويا لدى النخب السياسية الفاسدة و مواليهم لتغيير النظام الطائفى بكل تداعياته السلبية لأنه ببساطة من مصلحتهم بقاء النظام الذى يوفر لهم تفضيلات و معاملة تمييزية.
وباستمرار هذه التشوهات الهيكلية فى النظام الإقتصادى و السياسيى فى لبنان, تفاقمت الأزمة الإقتصادية حيث شهدت البلاد نقص حاد فى احتياطى البلاد من الدولار و بالفعل قيدت البنوك من قدرة الأفراد على سحب الدولار. كما بدأت نقابات العمال المختلفة فى اضرابات بسبب الصعوبات التى واجهوها فى الإستيراد بأسعار مستقرة.
علاوة على ذلك, فإن الإجراءات التقشفية و الضرائب التى فرضتها الحكومة أثارت الغضب الشعبى حيث دفعت الحكومة لرفع ضريبة القيمة المضافة من 11 فى المائة إلى 15 فى المائة- بينما تفرض الحكومة واحدة من أدنى معدلات ضريبة الشركات فى العالم و يتفشى التهرب الضريبى بين الشركات و أصحاب الدخل المرتفع.
و يسود التصور لدى اللبنانيون بأن الدولة قد توقفت فعليا عن القيام بدورها كمزود للخدمات العامة سواء جمع القمامة أو الكهرباء أو التأمين الصحى, بينما يستمر المواطنون فى دفع الضرائب و الرسوم مقابل خدمات لاتوفرها الدولة.
أهم ما يٌميز ثورة لبنان هذه المرة عن الحركات الإحتجاجية السابقة مثل حركة “ريحتكن طلعت” فى عام 2015, أن المظاهرات اندلعت فى جميع أنحاء لبنان و ليس بيروت فحسب. نجح المتظاهرون فى اضفاء الشرعية على وجودهم بإصطفافهم تحت العلم و النشيد الوطنى اللبنانى و ليس أعلام الطوائف أو القوى السياسية التى تقسم البلاد. كذلك نجح المتظاهرون فى البقاء فى الميادين رغم حملات التشوية و الإتهامات بالتخوين وتهديد المتظاهرين بورقة الطائفية و انهيار الدولة وفراغ السلطة.
بعد 13 يوما من اندلاع الثورة, لم يكن هناك مفر من تقديم رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري استقالته, بعد تسعة أشهر من تشكيل الحكومة التى فشلت فى تقديم الإصلاحات السياسية و الإقتصادية المأمولة. و يطرح السؤال نفسه هل تكفى استقالة الحريرى لإحداث تغيير سياسيى حقيقى – بينما لاتزال النخبة السياسية غير راغبة فى التغيير الجوهرى الذى قد يتحدى قبضتهم الطويلة على مفاصل الدولة و مواردها الإقتصادية.
كاتبة لبنانية